تقرا ما تقراش...... من التعليم إلى التشغيل1/2

De l’éducation ... et du travail
mardi 24 juillet 2012
par  LieuxCommuns

C’est une brochure qui traite des problèmes de l’éducation et de l’emploi en questionnant certaines notions comme l’éducation, le travail, l’égalité.... Je montrerai que les problèmes du chômage ne peuvent être résolus dans une optique productiviste et et que la solution radicale demeure dans le partage des richesses et l’auto-limitation. Par ailleurs j’invite à la conversion écologique de l’économie et à une écologie sociale et démocratique pour rompre avec la société de consommation.

الفهرس

توطئة-I أزمة المؤسسة التعليمية وفقدانها لدورها

التربوي-II الإطار الجديد للتعليم : تعليم في ظل مجتمع

استهلاكي، من التعليم إلى كره المجتمع-III

حول المجتمع البيداغوجي-IV

تفكّك النظام التعليمي-V

بعض مظاهر أزمة التعليم-VI

التعليم والتشغيل-VII

التعليم والتشغيل زمن العولمة-VIII

نزيف « العقول » : المغرب العربي مثالا-IX

تعليم الجهل في مجتمع المعلومات-X

التربية كعلم وتكنولوجيا-XI من أجل سياسة للتربية بصفتها أداة للتحرّر الذاتي : حتى لا يظلّ التشغيل الشغل

الشاغل للشبابXII

خلاصة -XIII


-I- تـوطئة

ما من شكّ أنّ أهمّ العوامل التي دفعت إلى انتفاضة الشعب التونسي هي البطالة إضافة إلى الاستبداد والفساد ولقد شكّلت بطالة « أصحاب الشهادات » عاملا من بين دوافعها وهي لعمري ظاهرة عالميّة لا يستثني منها أيّ بلد. هل يكمن الخلل في مؤسسات التعليم أم في المجتمع؟ لماذا تعجز المؤسسة التعليمية عن تحقيق ذلك المثل السامي المتمثل في تبليغ المعارف وإعداد نشئ مقتدر وقادر على تحمّل مسؤولياته في المجتمع؟ ثم ما هي أوضاع التعليم وما هي أوضاع التربية؟

قبل كلّ شيء يجوز بنا أن نلفت انتباه القارئ إلى ذلك الخلط المتفشي بين التربية والتعليم. فنحن نجد وزارات تسمّى بوزارة التربية القومية أو وزارة التربية والتعليم العالي والحال أنّ لكليهما مفهوم مختلف. فالتربية في مفهومها الأصلي تعني التغذية وتقديم المواد الضرورية لتلبية الحاجيات الأساسيّة وضمان النموّ الجسمي والذهني والأخلاقي. بالنسبة للحيوانات نرمز بالتربية تمكينها من الغذاء الضروري لنموّها. أمّا بالنسبة للإنسان فنضيف لكلّ ذلك التكوين الذهني والأخلاقي الذي يمكّن من إدماج الفرد في المجموعة والمجتمع. فالتربية في معناها الأصلي هي الغذاء في أبعاده المختلفة.

تعتبر المفكرة Hannah Arendt أنّ التربية هي ما قد يشغلنا وكذلك ما يمكن أيضا أن نتغافل عنه بدعوى التخلّي عنه لصالح علم مختصّ (البيداغوجيا). هي العلاقة بين الأطفال والكهول بصفة عامّة أو لنقل بصفة أدق موقفنا من النسل. فبما أنه من خلال النشأة ندخل العالم وبما أنّ هذا العالم يتجدّد من خلال التوالد والنشأة فالتربية هي النقطة التي يتقرّر فيها هل نحن نحب هذا العالم بما يكفي كي نتحمّل المسؤولية وأيضا كي ننقذه من الخراب والموت الذي سيكون المآل الحتمي من دون قدوم هؤلاء الشباب. من خلال التربية نقرّر مدى حبّنا لأطفالنا كي لا نتركهم لحالهم يهيمون ونحرمهم من إمكانية إنجازهم لشيء ما جديد وفذ لم نتكهّن به وبالتالي كي نعدّهم مسبّقا للقيام بمهمة تجديد هذا العالم المشترك. أمّا التعليم فهو في مفهومه الأصلي اللاتيني يشير إلى « التوجيه خارج » أو حتى الخروج من مكان لآخر. فالتعليم هو إذن أداة لإخراج الطفل ومرافقته من عالم النرجسية الطفولية إلى عالم الكهول، عالم الدلالات والمعايير والرّموز. كما أنّ التعليم يمكّن من الحصول على معارف وكفاءات تؤهّل للشغل والاندماج في المجتمع. دور التربية يتجاوز التعليم لكن لا يمكن أن نتحدّث عن التربية بمعزل عن التعليم الذي يمثل مرتكزا أساسيا للتربية بما أن التلميذ يمضي معدّل 15 سنة في الدّراسة في فترة ينمو فيها وينفتح على مجالات أخرى غير العائلة. فالتربية هي أشمل من التعليم لأنه لا يمكن للإنسان أن يحصل على معارف دون أن يكون سلوكه يسمح له بالتفاعل الإيجابي مع الآخرين. تساهم العائلة والمؤسسة التعليمية والمجتمع عامّة كلّها في تربية النشأ. تهيئ العائلة الطفل تدريجيا للتخلّص من انفعالاته وغرائزه العفوية والبدائية التي لا تعرف الحدود. أما المدرسة فهي إضافة لكونها تبلّغ المعارف والمعلومات فهي تساهم أيضا في تربية الأطفال وترافقهم في عملية الانصهار في المجتمع والمجموعة.

أخيرا تمثل البيداغوجيا الأساليب والمناهج والأدوات التي تمكّن من إيصال المعارف على أحسن وجه وقد عرفت انتعاشة مع بروز المجتمعات المعاصرة التي ركّزت على التعليم الجمهوري بصفته أداة لتوحيد الأمّة ولكنّها اليوم تعرف تراجعا رهيبا مع الاستعاضة عنها بما يعرف بعلوم التربية التي تتخلّى عن كلّ تراكمات البيداغوجيا الكلاسيكيّة. تاريخيا كان البيداغوجي في العصور القديمة ذاك العبد الذي يرافق الطفل للمدرسة وهي وظيفة لا تمتّ بأي شكل إلى التعليم والاقتصاد.

كلّ المحللين والمراقبين يقرّون بعجز المؤسسة التعليميّة وتراجع دورها بينما نلاحظ انفلاتا أخلاقيّا وتسيّبا ما فتئ يتوسع في أوساط التلاميذ وتراجعا لدور العائلة التي لم يعوضها المجتمع. كما أن المؤسسة التعليمية لم تعد تضمن لتلاميذها وطلبتها مستقبلا وشغلا قارا كما كانت عليه في السابق بل نحن نعيش تباعدا تاما بين المستويات الثلاثة ألا وهي التعليم والتربية والمجتمع وكأنها انعزلت وأصبح لكلّ منها مجاله الخاص تماما كما تذرّر المجتمع وترسخت فيه الفردانية والأنانية الضيقة.

سنحاول التطرّق لمجمل هذه المسائل معاينة ونقدا وسنقدّم تصوّرا عامّا لتجاوز الأزمة علما بأنّ التطورات الأخيرة في بلدنا وفي العالم قد دفعت بهذه القضايا إلى السطح بحيث لم يعد هناك بدّ من تجنّبها.

-II- أزمة المؤسسة التعليمية وفقدانها لدورها التربوي :

« تقرا ما تقراش المستقبل ما ثماش » : هو شعار رفعه الطلبة والتلاميذ في السنوات الستين والسبعين من القرن الماضي ويرمز إلى حقيقة جديدة مفادها أن التعليم لم يعد وسيلة للارتقاء الاجتماعي وهو يبرز أيضا استبطان فكرة في المجتمع تعتبر أن التعليم أداة للرقي وتحقيق المستقبل ولنقل الرّافع الاجتماعي.

لكن أي تعليم وأي مستقبل؟ يتساءل البعض ما الفائدة من التعليم؟ قد لا يجد الأستاذ الجواب أو يتغافل عنه أو حتى يعتبره حطا من دوره واستنقاصا له وقد يحار في الحصول عن الإجابة علما بأن هذه المسألة قد تطرّق لها الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد ورجال البيداغوجيا ولم يعثروا لها من إجابة تشفي الغليل. في معظم الأحيان يجد الأستاذ نفسه في وضعية المدافع المستميت عن دوره وعن أهمية التعليم في تقدّم المجتمعات دون أن يخطر بباله ولو للحظة أن يتساءل عن الغاية الفعلية للمؤسسة التعليمية لأن الجواب بديهي ومحفوظ في الكتب وراسخ في الأذهان. لكن المسألة تتعقّد كلما انتقلنا من البحث عن جدوى التعليم وأهميته في ضمان المستقبل إلى البحث في معنى التعليم. فمن البحث في منافع التعليم إلى البحث في المعنى من نقل المعارف ودور المؤسسة التعليمية في ذلك هناك أشواط ومسافات تتطلب الجهد والإمعان. يؤول بنا هذا السؤال مباشرة إلى موضوع أهم ألا وهو فقدان المؤسسة التعليمية لمعناها ويتجلى ذلك في الإحساس بالإحباط لدى عديد الأساتذة والمعلمين والمواطنين أمام معاينتهم للأزمة الخانقة التي تحف بقطاع التعليم ولنقل التدريس بصفة عامة. فأمام تدني المستوى التعليمي يحتار الأستاذ ويشعر باليأس والخيبة إذ أن جهوده تذهب سدى. ليست هذه سمات خاصة ببلدنا ولكننا نلاحظ علاماتها في كل أصقاع العالم. فحتى النظام التعليمي في البلدان الغربية يعاني من أزمة خانقة ومن التفكك والانهيار وهذا جلي منذ أكثر من ثلاث عقود وما تعاقب الإصلاحات وتنوّع البرامج إلا دليلا على هذا التخبط والحيرة. في الحقيقة لا يعود هذا التفكّك إلى أزمة خاصة بالنظام التعليمي ولكنه نتاج لمسار تاريخي للمجتمعات الغربية وحتى بلدان الجنوب والذي أدى إلى تغيير جوهري لنظام التعليم رافق التحولات الاجتماعية والمتميزة بهيمنة العقلية الاستهلاكية وتذرّر وتفكّك المجتمع مما يهدّد وحدته. لا تكفي معاينة أزمة المؤسسة التعليمية التي أصبحت جلية منذ السبعينيات للخروج باستنتاجات وحلول خاصة بهذا الميدان. لا أدعي أن النظام التربوي قد انهار بصفة نهائية وهذا يجرنا إلى البحث في عوامل صموده النسبي رغم ما يعتريه من مصاعب. لا أقدّم هنا حلولا سحرية ولا أدعي التوصل إلى إجابات ولكني أردت أن أقف على أزمة التعليم (والأزمة بمفهومها اليوناني الأصلي تعني لحظة مفارقة وحاسمة لقول أو فعل شيء لتجاوز المعضلة).

المدرسة والمؤسسة التعليمية بصفة عامة في أزمة. لا ينفي هذه الحقيقية إلا من تعامى وتجاهل هذه الحقيقة ورفض الإنصات للدعوات ولصيحات الفزع التي ما فتئت تصم بها آذاننا وسائل الإعلام والدراسات الاجتماعية والحوليات والمجلات المختصة في ميدان التعليم دون أن تهتدي للحلول وليس دليل على ذلك سوى جيش العاطلين من أصحاب الشهادات والذين ما فتئت أعدادهم تتزايد. من العلامات البارزة لهذه الأزمة الفشل في الدراسة وفقدان الثقة وخيبة الأمل والشعور باليأس والعجز وكلها مشاعر يتفق عليها الأولياء والمدرسون وطلاب العلم. من ناحية أخرى نلاحظ استفحال ظاهرة العنف في المدارس وبروز سلوكيات غير حضارية وتراجع سلطة المدرسين وعجز المؤسسة التعليمية عن ضمان ديمقراطية فعلية للتعليم وتراجع المستوى التعليمي وكلها علامات بارزة لهذه الأزمة. بطبيعة الحال وحسب هذا الظرف أو ذاك والفترات يطفو هذا الجانب أو الآخر ويحتل الصدارة في الإعلام ولكن تداخلها وتشعبها يجعل من الحلول الظرفية والمؤقتة والمحدودة أمرا مستحيلا ما دمنا لم نتطرق للمسألة في تكاملها. أمام كل ذلك تطبل علينا وسائل الإعلام وتدخل في مهاترات لا جدوى منها بل تبعدنا عن المسألة الأم وتحول دون استبيان الحقيقة وكأن المسألة خاصة ومحدودة. من ناحية أخرى نلاحظ حربا مستبطنة بين رجال البيداغوجيا والسياسيين تجلت في صراع بين عقلية محافظة وأخلاقية بحتة وبين دعاة الامتياز والبحث عن التعليم النخبوي الذي يركز جهوده على النخبة النيرة والذكية. فمن متحسّرين على الأزمنة الماضية ومن دعاة الصلابة والانضباط وفرض نظام حديدي ومن مدافعين عن المعرفة الخالصة وضمان حق التعليم لكل الطلبة وتوفير الظروف الملائمة لذلك إلى دعاة التغيير والإصلاح المتعاقب والمتواصل يتيه المواطن إذ أنه لا أحد يقدر على حل المعضلة العميقة التي يتخبط فيها التعليم. من ناحية أخرى وتحت ضغط المنظمات الدولية ومن بينها المنظمة العالمية للتجارة والتي فرضت خصخصة التعليم بصفته خدمة وذلك من خلال ما يعرف بالاتفاقيات العامة حول تجارة الخدمات وبالنظر لتراجع المساهمة الحكومية في هذا المجال تماما كما هو الحال بالنسبة للمجالات العمومية (فتجارة التعليم من بين القطاعات الأولى التي تدرّ مليارات الدولارات) برزت حملات نقد لاذعة أقل ما يقال عنها أنها اقتصادوية بحتة وهي لا ترى في الإصلاحات الضرورية سوى جانبها الاقتصادي البحت وهذا ما يفسّر إلى حد بعيد فشل حركات الاحتجاج المتعاقبة والخاصة بقطاع التعليم إذ أن الشعارات والمطالب لم تخرج من الإطار التقليدي الذي تحكّم فيها منذ عقود. "نريد تعليما ديمقراطيا وجامعة شعبية". ما معنى أن يكون التعليم ديمقراطيا وما معنى أن تكون الجامعة شعبية؟ هل يعني توزيع الجهل بصفة عادلة أم هيمنة بيروقراطية على مجال التعليم؟ أما من جانب قطاع المدرسين من معلمين وأساتذة ففي غالب الأحيان تحوّلت المسألة من قضية عامة إلى مسألة خاصة بقطاعهم ودعا بعضهم إلى حلول ظرفية وإلى علاج يحدّ من الأعراض لكنه لا يرتقي إلى أصل الداء بما أنه ينحصر في حلول تقنية صرفة والحال أن أزمة التعليم هي بالأساس مظهر من مظاهر أزمة المجتمع. في الحقيقة ما يعوز المدرسة هي آفاق سياسية واضحة وهذا هو جوهر القضية.

فالمؤسسة التعليمية متهمة ولو ضمنيا بعجزها عن تحديد مهمتها ودورها إذا استثنينا التصور العام الذي يجعل منها رافعا اجتماعيا معطّلا والمدرسة التي كانت تمثل بالنسبة للأولياء مجالا مقدّسا وبالنسبة للتلاميذ محيطا شاملا وبالنسبة للمدرسين خيارا وموهبة وتطلعا لم تعد تلبي هذه المطامح والتصورات. لقد أصبحت مجالا للحيرة والقلق حيث لم يعد الحصول على الشهادات أمرا مؤكدا. فهذه الأداة التي يراد منها أن تضمن المستقبل لم تعد تمثل المجال الذي يفترض فيه أن يكوّن الإنسان ويصقله ويعدّه للحياة العملية ويدمجه في المجتمع ودورة الاقتصاد. لقد تغيّر دور المؤسسة التربوية جذريا. فالعلاقة بين المجتمع والمدرسة أصبحت تشوبها حالة من انفصام الشخصية والثنائية. فمن ناحية هناك انفصال تام بين المجتمع والمؤسسة التربوية بينما ترسّخ الارتباط بهذه الأخيرة بصفتها المرحلة الضرورية للانصهار في هذا المجتمع. ففي الوقت الذي تطالب فيه المؤسسة التعليمية بتقديم كل المعارف بما في ذلك تلك التي كانت تعهد للمجتمع والعائلة توجّه أصابع الاتهام إلى هذه المؤسسة لكونها أخلّت بهذا الدور وأصبحت مجالا للانحلال والميوعة وعدم المسؤولية. لكن ما يبقي على التمسّك اللصيق بالمؤسسة التعليمية هو دورها في توفير أوسع المعارف. بما أن القيمة الوحيدة التي أصبحت معتبرة ومهمّة بالنسبة للغالبية تظل القيمة الاقتصادية عرفت المؤسسة التعليمية حالة من الاستهلاك الأقصى والمتزايد وقد تجلى ذلك في الدروس الخصوصية والمنافسة وإقرار تباين بين المؤسسات التعليمية والبحث عن الامتياز والتفوّق.....

قد تأخذ الخيبة أشكالا عديدة من بينها الانزواء في مجموعات ضيقة قد يتخذ طابعا كارثيا من نوع : « ليحلّ من بعدي الطوفان » أو "لقد أنهيت دراستي ولن أغامر بإنجاب الأطفال وتحمّل مسؤولية تعليمهم" وهذا يعني أن الأولياء والأساتذة والطلبة لم يعد يكترثون في معظمهم بالمؤسسة التعليمية.

بالنسبية للغالبية من إطارات التعليم والذين عودونا في السابق بأن يكونوا سباقين في التعرّض لدور المؤسسة التربوية نلاحظ استقالة تكاد تكون عامة وانقطاعا تاما عن الحديث عن المسائل التي اهتم بها جيل الستينيات والتي تخص البيداغوجيا الجديدة أو البديلة. بما أن التدريس قد أصبح مهمّة شاقة وربما غير ذي فائدة تذكر لجزء هام من الأساتذة فالأجدى أن يكتفوا بأداء دورهم في الحدود الممكنة وأن لا يجهدوا أنفسهم ويحذوا حذو التيار الغالب ويتباكوا على العصور الماضية ويتحسروا على التنظيم السابق للمؤسسات التربوية وعلى المستوى التعليمي « الراقي » الذي كان عليه نظام التعليم مقارنة بما هو حالي. بالنسبة لعدد هام من المدرسين أصبح التعليم وظيفة شبه إجبارية ومضنية ومفروضة غايتها الارتزاق وكسب القوت عملا بمقولة مكره أخاك لا بطل. من ناحية أخرى ومع تعاظم مخاطر العمل الأجير خصوصا في القطاع الخاص حيث يتعرّض العمال كل يوم لخطر البطالة والتهميش والطرد أصبحت مهنة التدريس تجلب العديد من الطلبة بما أنهم يبحثون عن الاستقرار العائلي. يظل الهاجس الأول هو ضمان قوت ومكسب قار وهذا جلي في المناطق الشعبية والريفية حيث أصبحت مهنة التعليم الملاذ والملجأ بعد أن وقع القضاء على المجال الزراعي وتفكيك البنية الاجتماعية للأرياف ودفع الآلاف إلى النزوح للمدن الكبرى. من نتائج كل ذلك بروز حالة من الحيرة لدى المدرسين والتلاميذ وبروز خطاب يلقى الرواج يدعو من ناحية لضمان العدالة في التعليم ولكنه بالمقابل يحمّل التلميذ مسؤولية فشله. من علامات هذا التنصل من المسؤولية والشعور بالخيبة تركيز المدرسين على المطالب المهنية والحرفية والتي وإن كانت شرعية باعتبار غلاء المعيشة وتدهور الوضعية الاجتماعية لسلك التعليم وظروف العمل السيئة والمضنية التي تنعكس على مستوى التعليم لكنها لا تتوجه إلى أصل الداء وإلى جوهر الأزمة. في الواقع إن أزمة قطاع التدريس ليست سوى جانبا من الأزمة العامة للتعليم وهذه الأخيرة ليست سوى نتاجا لترسبات في المجتمع. فأزمات التعليم ليست في الحقيقة أزمات خاصة بالقطاع بل هي تمثل أزمة شاملة للحياة وللمجتمع. فغياب المعنى ليس خاصا بقطاع التعليم بل هو غياب شامل. لقد فقدنا البوصلة ولم نعد ندري ماذا نريد وأي مستقبل نبتغي وفي أي اتجاه نسير ولأي مجتمع نطمح. إنها أزمة التطلع الديمقراطي كما جاء ذلك على لسان أحد المفكرين.

-III- الإطار الجديد للتعليم : تعليم في ظل مجتمع استهلاكي، من التعليم إلى كره المجتمع

عندما يعجز مجتمع عن التعليم فهذا لا يعود لضعف وخلل في الجهاز أو المؤسسة أو في « الصناعة » فهذا يعني أن المجتمع إجمالا عاجز عن تعليم نفسه. فبالنسبة لكل البشرية أن يعلّم المجتمع فمعناه أنه قادر أن يتعلّم. فمجتمع لا يعلّم هو مجتمع ينكر ذاته ويكرهها ولا يحترمها. إنها حالة المجتمعات المعاصرة التي فقدت كل معنى لوجودها ومستقبلها. فالمجتمعات المعاصرة تحدوها رغبة ويقودها وهم ما فتئ يتعاظم ويترسخ مفاده أنه سيسمح بمراكمة لا حدّ لها وتطال كل مجالات الحياة الاجتماعية. لقد نجحت المجتمعات خصوصا منها الغربية وإلى حد بعيد في تحقيق هذه الوعود سواء في مجال الخيرات أو مراكمة الأشياء والأملاك أو في مجال التقدّم في ميادين الطب والتكنولوجيا والهيمنة على الطبيعة وحتى الحريات الفردية بل هي رسّخت فكرة الاستهلاك الذي لا يعرف الحدود. الكل يستهلك : الإنسان يستهلك سنويا ما يفوق وزنه 10 مرات من المحروقات ومواد الطاقة وما يقارب 100 مرة وزنه بالنسبة لسكان المدن الكبرى. حياة الفرد رهينة الأشياء التي يتحصل عليها ويملكها. النجاح يقاس بمدى قدرته على شراء السلع الاستهلاكية المعروضة في السوق و« أرفعها » و« أجودها » وصولا إلى الصورة ووهم الصورة. إنه يستمد شخصيته بمدى تأثر الآخرين به وبجاذبيته واستجابته لنمطية معينة. هناك مفارقة جد مثيرة و لافتة للانتباه. لقد بنيت الحداثة وما بعد الحداثة على قاعدة رفض الماضي وإلغاء الذاكرة. فزمان الحداثة خطي يتسارع إلى الأمام ويدعي أنه يلغي ما سبقه فيصبح الحاضر زئبقيا ينفلت بمجرد حضوره. لكن الحداثة تتناقض مع ذاتها بما أنها تخلق « تراثها » وذاكرتها دون أن تشعر أو تعي بذلك. فالدعوة إلى القطع مع الماضي خلف رد فعل لدى عامة الناس تجسد في شعور بالريبة والخوف من زوال الذاكرة و التاريخ خصوصا وأن المستقبل المضمون بعيد المنال ومؤجل إلى تاريخ غير محدود (كما تدل على ذلك الصفة التي تلصق بالمجتمع : مجتمع ما بعد الصناعة- ما بعد الحداثة – ما بعد التاريخ – ما بعد ... ) كما أن تأزم الحاضر وبروز مخاطر عديدة (بطالة – تهميش أجزاء متزايدة من الشعب – مخاطر بيولوجية – تلوث – تلوث الطعام بمواد كيميائية وبيولوجية – حروب – انخرام الأمن – إجرام ...) تعمق هذا الشعور. لكن أن يعد المجتمع كل فرد بإرجاء السعادة لغد غير معلوم وبالتخلص من كل العراقيل والمصاعب ودفعها وصولا لتحقيق أوسع المطالب والرغبات فمعناه أنه يهيئ الظروف العملية لكره ذاتي حقيقي وربما نفي وجوده. "غدا سوف نتخلص من الأمراض ونوفّر كل الحاجيات ونتغلب على كل المصاعب ونحقق كل الأحلام ونسبي العالم ونغزوه ونأسره ونتحكم في كل شيء. غدا سنوفر لكم كل الحاجيات ونحقق الوفرة ونجعلكم أسياد الكون فلتترقبوا ولتصبروا ولتصابروا". ألم يعلن نيكسون الرئيس الأمريكي السابق في السبعينيات أن الإنسان سيقضي على كل أنواع البكتيريا ويتخلّص من مرض السرطان؟ ألم يعد خبراء البيولوجيا والوراثة بولادة بشر حسب الطلب وحسب الخاصيات المرغوب فيها؟ ألم يعد الخبراء بعمل في المنزل يجنبنا التنقّل واللقاء مع الآخرين؟ إنه مجتمع المعلومات. (من المضحك أيضا أن الماركسية تعد بالعدالة في مجتمع الوفرة : "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته" أي أن المجتمع الشيوعي هو استهلاكي بالدرجة الأولى). يعني كل ذلك أن المجتمع يتنكّر لحاضره لصالح وهم ما فتئ يتعاظم. لقد أصبح جليا أن الضريبة التي يدفعها المجتمع لقاء كل ذلك هو إعلان حرب الكل ضد الكل وانهيار العلاقات بين مختلف مكوّنات المجتمع. فالإدعاء بأن العلاقات بين الأفراد المتذررّين كحبات الرمل والمنعزلين ستحكمها روابط تعاقدية صرفة يعني أن نعدّ للتخلّص من جملة العوائق التي تفرضها العلاقات الاجتماعية والحياة بصفة عامة. فالانزواء في الحياة الفردية والانهماك في مجتمع استهلاكي يخلصنا من متطلبات الحياة الجماعية مع أناس غرباء. كما أن اللهو يخلصنا من هموم الوجود والتفكير. فصعود اللامعنى أو افتقاد المعنى يحررنا من معنى الوجود والفعل ومعنى التمكّن من الحصول على الأشياء. فالسعادة الموعودة هي استقلال تام عن كل ما هو موجود وعما سيكون وينشأ وعدم اكتراث به. من المفارقات أن هوس البحث عن مثل هذه السعادة تتشخص في فردانية مقيتة في الوقت الذي تبدو فيه بصفتها ذوبان كامل وتطابق عام مع ما هو موجود بحيث أن الفعل يخضع لتصوّر واحد وفريد. إنه عصر التطابق المعمّم فكرا وتصوّرا وحياة يومية ولباسا وحتى لغة وفنا. بيروقراطية، هيمنة مجتمع الصورة والمشهد، اللامعنى، عقلنة الحياة الخاصة بما فيها المشاعر الداخلية، مرض الاستهلاك، التقليد الأعمى، البحث عن الشهرة والنجومية، كلها تساهم في تغيير بنية الشخصية للأفراد المعاصرين. إنهم قد فقدوا البوصلة وحتى الشخصية الفعلية. نفس اللباس والأكل والتفكير هذا إن كان هناك تفكير بل حتى نفس اللغة. فمن بين الوسائل المتاحة للتّحكم في الفكر هناك تضييق المجال على اللّغة وعلى القدرة على تطويعها. لقد كان هذا الأسلوب شائعا في الأحزاب الفاشيّة والشّموليّة. في البداية يقع إفقار اللّغة وتحديد مفرداتها وأساليب تعبيرها والتّخلّص من الكلمات غير المرغوب فيها كما يقع الحدّ من التعابير المجازة القابلة لأكثر من تأويل وفهم. تتجسّد مهمّة اللّغة الجديدة في القضاء على المعنى. فكلمات مثل الشرف والإخاء والتّحابب والتّعايش تفقد شيئا فشيئا من معناها وحضورها وتغيب من قاموس اللّغة الجديدة ويقع تغليفها بتعابير أخرى فضفاضة تسحقها وتنزعها من ذاكرة ومخيّلة الشّعوب. يحتوي قاموس اللّغة الجديدة على ثلاث أنواع من الكلمات :

  • كلمات غير معبّرة وإن جاز القول "محايدة سياسيا" وهي كلمات محدّدة المعاني ولا تقبل التأويل وتخصّ مجال الحياة اليوميّة وهي خالية من أيّ تعبير مجازي كأن نقول طاولة وكرسي وحائط.
  • تعابير مركّبة فقيرة المعاني وقد تؤدّي معنى مناقضا للمنطوق. إنّه الخطاب السّياسي بالأساس وخطاب الخبراء الذي يفرض على السامع التقبّل والقبول. لا تستمدّ الكلمات معانيها من مضمونها ومدلولها المتعارف ولكن من شروط وظروف إلقاء الخطاب. فالمخاطب يفرض مفهومه اعتمادا على مركزه في السّلطة. مثال ذلك : الجهل قوّة والحرب سلام... .
  • يحتوي القسم الثالث من القاموس الجديد على كلمات تقنيّة وعلميّة أي لغة المختصّين والخبراء التي لا يفقهها سوى الرّاسخين في العلم. ينحصر استعمال هذه المصطلحات في الإطار المختصّ. مثال ذلك الجين والنّواة والطّيف المغناطيسي والصّبغيات...

تقوم هذه المكوّنات الثلاث للّغة الجديدة بإفراغ التّخاطب والكتابة من حيويّتها وديناميكيّتها الخاصّة وذلك باختزال المعنى وتضييقه في استعمال محدّد وملموس وتغيير ذلك إذا اقتضت الحاجة. هناك فصل واضح بين هذه الأجزاء الثلاث التي لا يسمح لها بأن تتداخل. هكذا نضحّي بالأشكال التّعبيريّة البلاغيّة والفنّية وبالتلوّنات استجابة لقواعد صارمة للتّواصل لا تقبل التّجاوز. على كلّ كلمة أن تُنطق وتُسمع بسهولة. كلّ أجزاء الخطاب قابلة للتّبادل والتّداخل : الفعل والفاعل والمفعول به. مواصفات الخطاب الجديد أن يكون سهلا، يسيرا، سريعا، مختزلا كلغة الستينغرافيا ويحتوي على أقلّ عدد ممكن من المقاطع (Syllabe). الهدف من كلّ ذلك هو فصل الخطاب عن الوعي. هكذا يتغلّب الصّوت على المعنى والنّطق على الموضوع. هو عالم مجتمع التّواصل وتبادل المعلومات الذي يصبح أهمّ من موضوعها. هو بعبارة أخرى عالم تجارة الكلام. « خذ كلاما وهات كلاما » وكلّما كانت تجارة الكلام أوفر وأهمّ كلّما كان ذلك معيارا للنّجاح. لا يغرّنّكم هذا التبادل. ليس المقصود به تعميق الحوار وتلاقح الأفكار وتصارعها وتنافسها ولكن فقط تنشيط حركة الكلام وتحريك هذه الوظيفة وفقا لمعايير ومقاييس محدّدة. تجسّد اللّغة الجديدة نظاما خاصّا مستحدثا هدفه القضاء عل كلّ إرادة خاصّة ومتميّزة للتّفكير والاستعاضة عن كلّ ذلك بـ"آراء صحيحة سياسيّا« كأن تقول : »التّكنولوجيا وسيلتنا لتحقيق الرّفاهية والدّيمقراطيّة والكائنات المحوّرة جينيا أداتنا للقضاء على المجاعة أو كلّما زاد الاستهلاك تراكمت السّعادة". هذه الأفكار تصبح مسلّمات وبديهيّات لا تقبل النّقاش. من يقدر أن يشكّك في تعبير من نوع : "التنمية المستدامة« و »الثورة الرّقمية". فهي ليست نتاجا لنقاش أو ثمرة لمجهود فكري جماعي. المهمّ أنّها تعابير تسير، تسافر، تنتقل وتسيل كالماء الرّقراق. إنّها تجسيد لهيمنة مجتمع النّخاع الشّوكي، مجتمع دون مخّ ينحصر دوره في الرّد الانعكاسي الأوّلي المكيّف والمهيّأ Réflexes conditionnés . تستعيض اللّغة الجديدة Newspeak عن الفكر الواعي « بالفكر » المنمط والمعلّب والمتطابق. فنحن في عصر التّطابق المعمّم على حسب تعبير المفكّر Cornélius castoriadis. كلّ خطاب جديد ومغاير يعتبر نشازا لا يستساغ ولا يفهم. ماذا يقول هذا المعتوه؟ أي هذيان هذا الذي ينطق به هذا الشّاذ والخارج عن المجموعة؟ تهيكل اللغة الجديدة أسلوب تفكير الغالبيّة وتجعلهم يشعرون بالانتساب إلى مجموعة لغوية خاصّة تنغلق على نفسها كلاما ومعاني، نطقا ومدلولا وتسجن نفسها بنفسها.

انطلاقا من هذه الحلقة المفرغة ومن هذا التخريب وحتى الهدم للحياة الشخصية تتفكّك العلاقات بين مكونات المجتمع وبين الذوات وهذا يخلق حالة من القلق والحيرة والانهيار النفسي ما فتئت تتعمّق وتزداد خطورة. للتخلص من هذه الوضعية ينصح بتجنب الحياة الاجتماعية وعدم الالتزام في علاقة صداقة أو حب وتجنب الارتباط الشديد بالآخرين وبالاهتمام باللحظة الحاضرة ولكن ذلك لا يزيد سوى في تعميق الأزمة. فالشباب يواجه مجتمعا فقد كل القيم والمعايير وعوضتها مقاييس مثل مستوى العيش ومقدار السعادة المادية والقدرة على الاستهلاك ومراكمة المال والمتاع. فلا أفكار سياسية ولا تضامن اجتماعي مع الأجوار وأبناء القرية أو المدينة الواحدة أو الزملاء في المهنة والشغل أو زملاء الدراسة وحتى وإن شعر بأن المجتمع قد همشه فسيلجأ إلى الحياة الفردية وينكفئ على نفسه أو ينشغل في مسائل وأهواء شخصية. نحن نعيش قي مجتمع اللوبيات والأهواء. فالتعاقدات والاتفاقات التي كانت تحكم المجالات التقليدية للالتقاء الاجتماعي والتي من خلالها يقع ضبط العلاقات بين الأفراد أصبحت تعتبر معيقة ومنبوذة وسطحية ولا تتماشى مع العفوية التي تحكم العصر والتي يمكن تلخصها في مقولة « كن كما أنت » هذه المقولة التي أصبحت المرجعية الوحيدة والضمان الأوحد للتعبير الأصيل. فسواء تعلّق الأمر بالمؤسسات السياسية أو النقابية التي لم تعد تحظى بنفس التقدير أو بمجالات العمل خصوصا مع انهيار المعارف القديمة والتخلي عن المواقع الاجتماعية القديمة لصالح ثقافة المؤسسة أو في مجالات السكن والتجاور مع تفكّك القرى وتهجيرها أو الأحياء وما شاكلتها فلقد قضت الرأسمالية الفاحشة على كل شكل من أشكال السلوك الحضاري والجماعي والتضامن التي كانت تحكم العلاقات بين البشر. هكذا لم يعد الفرد قادرا أن يتماهى مع المجتمع الذي ينتمي له بل أنه لم يعد يعيره أي اهتمام. فاستراتيجيا الهروب والتخلي عن الواجبات والانسحاب من كل ما من شأنه أن يساهم في خلق حياة جماعية أصبحت طاغية. لكن إذا لم نقبل بوجودنا كطرف في مجتمع نتفاعل معه وبدون التماهي مع هذا النحن والنحن الآخر يذوب كل معنى للحياة الاجتماعية والجماعية. فاليوم يوجد مفهوم المجتمع نفسه على المحكّ وفي بعض الحالات يخامرنا سؤال حول معنى المجتمع وهل ما زال له وجود فعلي. ألسنا أمام تراكم لأفراد غايتهم الوحيدة هي التخلّص من فكرة المجتمع ومن فكرة الانتماء له.

في غالبية الأحيان أصبحت العلاقة بين الأزواج عبارة عن اتفاق متغيّر بين فردين أو علاقة مبنية على مفاوضات ومفاهمات « عقلانية » أو عقد وقتي معرّض للزوال السريع أو لنقل قابل للتآكل في أسرع وقت ولم تعد العلاقة العاطفية هي التي تحكم هذا الالتزام بل أن ولادة الطفل أصبحت هي الرابط الحقيقي. من المفارقات أن كل الجهود تستثمر في العائلة التي تشكل موقع التذرّر والفردانية والملاذ الأخير ضد الحياة الجماعية بما تمثله بالنسبة للأفراد من قمع والتزام وحدود. يصحب هذا النمط الجديد من الحياة العائلية غياب البعد المؤسساتي التي كان يحكمها وفقدانها للدور الذي كان يناط بعهدتها. فالأولياء يربون أطفالهم على عدم الاكتراث بما يهم المجموعة وبالمؤسسات التي تحكم المجتمع ولكنهم يبحثون عن فرض شخصية أبنائهم وإبراز طاقاتهم الفردية وهذا في جميع المجالات. لنقل أنه في أذهان العديد من الأولياء يمثل الطفل رأسمالا يجب توظيفه والعمل على أن يدرّ على صاحبه النجاح والشهرة والتفوّق والبروز والنجومية في مجتمع لا يعترف إلا ب« الامتياز » الفردي. من المعلوم أن الأولياء يشكلون الحلقة الرابطة بين المؤسسة الاجتماعية من ناحية وتكوين النفسية الفردية للأبناء أي أنهم يقومون بدور الممثّل لدى الطفل للمجتمع ولتاريخ الإنسانية ولهذا الإنسان منذ ظهوره على وجه البسيطة. فالتربية التي يتلقاها الطفل في المحيط العائلي تعمل على دمج الطفل في خط تواصلي يربطه بإرث عائلي. فبإنجاب الأطفال تدمج العائلة الطفل في عالم من المؤسسات الموجودة. لكن هذه العائلة تعرف تفككا وتراجعا لدورها وهذا ليس بارتباط باستفحال حالات الطلاق ولكنه نتاج طبيعي لفقدانها لدورها كمحور ومركز للمعايير والقيم. آخر موضة في مجال التربية تجلّت في شعار « التكوين الناجع للأولياء » (أو البحث عن تصوّر للعائلة المثالية) وقد روّج أصحابها لمفهوم العائلة الأصيلة والمتأصلة ولكن ذلك لم يحل دون توتّر العلاقة بين الأولياء والأطفال وتدعيم القطيعة بينهم. فقد الولي الحقيقي والعادي الثقة والقدرة على تحمّل الأدوار الأيسر والمتعلّقة بتربية الأطفال. فخلف الوهم ببروز عائلة مثالية تبدّد الدور التقليدي للأولياء : فمن أب يدلّل أطفاله ويلام لقلة صرامته و« رجوليته » واستقالته عن القيام بدوره وتخليه عن صلاحياته لفائدة الأم التي أصبحت تمثل السلطة في الوقت الذي تعاني فيه من حالة تمزق وتجاذب بين متطلبات الشغل ومتطلبات إعداد النشإ يتيه الأولياء في البحث عن أصالة مزعومة وعن صورة مثالية ويعجزون عن تحديد ما يمكن أن يسمحوا به وما يمكن أن يمنعونه. من المضحك أن يطنب البعض من الخبراء في الحديث عن دور العائلة وضرورة استعادتها لدورها الأصلي والحال أن المغامرين يعدّون لولادة خارج الأرحام وفي الأنابيب أي تقننة العائلة.

فقدت العائلة دورها كمؤسسة وخلية اجتماعية لها مهمة تربوية أساسية ووقع اختزالها في مجال خاص منعزل. فلقد تخلّت عن التربية لصالح المدرسة. تكمن المفارقة في أن العائلة قد اخترقتها المعايير الفردية والأنانية الضيقة ككل قطاعات المجتمع ولذلك نراها تتوجّس من القوانين التي تفرضها المؤسسة التعليمية وهذا ما يفسّر في بعض الأحيان الصراعات التي قد تنشأ بين الأولياء والمدرسة وعدم تقبّل الأولياء للقرارات الزجرية تجاه أبنائهم. من ناحية أخرى يعلم الأولياء أن الحياة الاجتماعية قد أصبحت محفوفة بالمخاطر لذا تراهم يدلّلون أطفالهم ويعمدون لحمايتهم من تأثيرات المجتمع ولكن دون جدوى. "اتركوهم يتمتّعون بحريتهم وينعمون بطفولتهم قبل أن تحين مرحلة الصعوبات". إنّه الطفل الملك. يلاحظ البعض أن هذه المسألة تتعمّق في الأوساط الشعبية حيث يترك المجال واسعا للطفل لمشاهدة التلفزيون لمدّة غير محدودة والحال أن العائلات الميسورة التي تعلم حق العلم مخاطر ذلك تحدّ من هذه الحرية المزعومة. تتقلّص العلاقة بين الأولياء والأبناء داخل العائلة ويتجنب الأولون الحديث عن الأشياء التي تخصّهم وعن عملهم. لقد ذرّر المجتمع المعاصر الأفراد والعلاقات وشجّع على الوحدة وفكّك العلاقات الاجتماعية وبالمقابل غرس الأنانية والنرجسية وحب الذات وهذه النرجسية يسقطها الأولياء على أبنائهم وبذلك يتحوّل الابن إلى مثابة ملكية خاصة وجب الحفاظ عليها وحمايتها وتدليلها وتمكينها أقصى درجات الحرية والدفاع عنها مهما كانت الظروف والحالات ضد الآخر.

منذ القدم واجهت البشرية أشكال القمع والاستعباد والقهر المختلفة وقد أدى ذلك لحركات المقاومة التي لا يسع المجال لذكرها ولكن ما لاحظناه في العقود الأخيرة هو عكس ذلك إذ بدل أن يواجه المواطنون مختلف الضغوط التي فرضها مجتمع الاستهلاك ويخرجون بتصوّر يحررهم منه ما عايناه ونعاينه هو كره للمجتمع وتجنب له واستقالة تكاد تكون شاملة وعامة من تحمل المسؤولية في القضايا التي تهم المجموعة وحالة من الانزواء تقابلها سلطة متعاظمة لأوليغارشيا مالية وبيروقراطية في المجتمع تدعمها وسائل دعاية وإعلام. حتى حركات الاحتجاج الأكثر عنفا وجذرية فلقد انتهى بها المآل إلى الالتفاف والسقوط في أحابيل القوى المهيمنة بل لقد أدمجت المطالب التحررية في تصوّر ليبرالي متوحّش ومقيت وإذا بالمطالب التي تدعو للديمقراطية والتحرر الذاتي فرديا كان أم جماعيا (بما في ذلك حركات الاحتجاج التي عرفتها السنوات الستون من القرن الماضي) تستقطب ويقع صهرها في ما يدعوه البعض بتعصير المؤسسة والمجتمع وما أصبح اليوم يعرف بالحاكمية أو الحوكمة. بطبيعة الحال يعود كل ذلك إلى عدم انصهار تلكم المطالب المشروعة في واقع معاشي يومي وفي تصور شامل وملموس في نفس الوقت. فلقد كانت جل الكتابات التي توجهت للمؤسسات بما في ذلك المؤسسة التعليمية يغلب عليها الجانب الأيديولوجي الذي قد يصل حد السذاجة والسطحية أو التنديد بالجانب القمعي لهذه المؤسسة بصفتها تعيد إنتاج المجتمع وتفرض عنفا رمزيا بحيث تمثل المدرسة مجالا للتسلط والعقاب وإخضاع الجسد عوضا أن تكون أداة تحرّر من عالم الكهول ولإبراز وتكوين الشخصية. كما توجّه النقد للهيكلة المتكلسة والجامدة للمؤسسة التعليمية ولطبيعتها المحافظة وعلاقات الترابط بين مختلف المؤسسات مما يحدّ من حرية الأفراد ومبادراتهم. لقد كان ذلك جليا في كتابات فوكو وبورديو وغيرهما. لكن هذا النقد قد تغاضى عن دور المدرسة في إدماج التلاميذ في المجتمع وتخليصهم من الرتابة كما أنه تغاضى عن دور المدرسة وما يحيط بها من خارجها وعن ودورها في إعداد الأطفال وتربيتهم ولكن ما يهمنا هو أن هذا النقد الرافض لم يفض لمخرج وتصوّر. يعود هذا العجز عن إيجاد البدائل إلى جمود في القدرات الخيالية وانعدام انبثاق دلالات جديدة يمكن لها لا فقط تجاوز الأطر التربوية وحدها ولكن أيضا وبالخصوص قادرة على تجاوز أزمة المجتمع قاطبة وتذرّر المجالات التي من الفروض أن تكون أداة لاجتماعية الفرد وانصهاره في المجموعة. فعلى سبيل المثال إلى حد الآن تعجز الدوائر المسؤولة عن ضبط لحظة التحول إلى سن الكهولة. أي سن يسمح للطفل أن يحصل على تكوين يخوّل له أن يدخل في علاقة تربوية مغايرة؟ فالمؤسسة التربوية تعتمد على عنصر السن للانتقال من مستوى إلى آخر كالتحول من فترة التعليم التحضيرية وما قبل المدرسي إلى فترة التعليم المدرسي دون اعتبار لما لهذه القطيعة من تأثير على نفسية الطفل وما يسببه ذلك من عنف. من ناحية أخرى واعتبارا للتحولات المعاصرة التي طرأت على المجتمع وبالأخص غياب القدرة على التماهي مع آخر ورمز (وهذا بارتباط بتراجع المرجعيات وهيمنة النزعة التقنية والعلمية) فلقد أوكل للمؤسسات دور أساسي في دمج الأفراد في عملية الإنتاج والمجتمع بصفة عامة بدءا بالعائلة ووصولا إلى مؤسسات التعليم. البعض من المحللين يرون في العودة إلى السلطة والعقاب والانضباط والتشدّد الحل الأمثل لكن هذا الحل السحري يتجاهل حقيقة أن تمثّل الأفراد والمجموعات لا يمكن أن يخضع لسلطة ولأمر (حتى وإن وقع فرض ذلك لمدة محدودة) ولكنه تصوّر ذاتي ولن يكون بفعل القوة والعنف المسلّط عليهم. كذلك فإن تحلّل العائلة وتراجع دورها التقليدي لا يجب أن ينظر له فقط كعلامة لأزمة المجتمع وانحلاله وفقدانه للمعاني ولكنه أيضا يحمل في طياته بذرات تحرّر وقد يعبّر عن رغبة الأفراد في التحرّر الذاتي (كالتحرر من السلطة الأبوية في العائلة). لكن انعكاسات ذلك تظل متناقضة ويشوبها الغموض. فكلما نتقدّم في الزمان نجد أنفسنا مجبرين على التساؤل : هل أن هذا التطور الحاصل في المجتمع وفي أوساط الأطفال والتلاميذ بصفة عامة يترجم بداية بروز وانبثاق أنماط جديدة في الحياة أم أنه علامة ضياع وجمود؟ فنحن نقدّر الدور الأساسي للعائلة في تثبيت المعايير لدى الطفل وإعداده للاندماج في المجتمع وقبوله بالتحديد الذاتي وعدم الانصياع لرغباته الطفولية وتمكينه من نسج علاقات مع محيطه والتخلص من ذلك الشعور النفسي البدائي بالقوة والسلطة اللامتناهية لكن القبول بهذه القواعد والقوانين والنواميس لا يمكن أن يتحول إلى القبول بالموجود والخنوع له بل لا بد أن يكون مصاحبة في العالم المعاش يقرّ بحقيقة أنّ القواعد نابعة من المجتمع ولا خارجة عنه. لقد تخلت العائلة عن هذه الوظيفة باسم حرية مطلقة مزعومة للطفل قد تتحوّل في بعض الحالات إلى نوع من النرجسية تدعي الدفاع عن شخصية وأصالة وفرادة كل فرد.

في ملف أعدته جريدة الشروق بتاريخ 16 جانفي 2012 نقرأ ما يلي :" بسبب ما تحملته من إصلاحات مختلفة بأمزجة وأفكار متضاربة فقد فقدت المدرسة روحها وتحوّلت إلى مجرّد بناية يرتادها التلاميذ صباحا ليغادروها مساء بكمّ قليل من المعرفة وكمّ هائل من الوقت الضائع. فقد اختفى معلّم الأمس ذو الشخصيّة الجاذبية والمستوى العالي من الثقافة الإنسانية الواسعة التي مكّنته من إدراك ما يترتّب على عمله من مسؤولية تجاه المستقبل وساعدته على إدراك القيم الخلقية والمبادئ العلمية والمفاهيم الفنية ومكنته من اختيار السبل الصحيحة في التعامل مع الحياة وإيصالها بأمانة للتلاميذ الذين يتعرّفون على العالم من خلال هذا المعلّم........" لقد انحدر مستوى التعليم ومن معالمه "الإيهام بنجاحات شكلية وفشلت المؤسسة التعليمية في التوفيق بين التكوين المعرفي والعلمي للناشئة من ناحية وترسيخ القيم الإنسانية والتنشئة على المواطنة« ويضيف وزير التربية السابق : » لقد أصبحت المدرسة التونسية فضاء لحشو الأدمغة أي فضاء تلقينيا" ومن علامات رداءة المنظومة التربوية تلك العلاقة الغريبة بين الأولياء والمدرسة إذ" بمجرّد أن يتكلّم المعلّم مع تلميذه نصحا حتى يهرول أولياؤه إليه شاكين ومخاصمين وقد يصل هذا إلى حدّ تهديده وأحيانا أكثر من ذلك". يبقى أن الحلول المقترحة لم تتعدّى الإصلاحات القديمة حيث تقع الدعوة "للاستنجاد بأصحاب الخبرة والاختصاص ومن لهم دراية واسعة بالموضوع" وكأن المسألة داخلية وتقف حدودها عند جدران المدرسة.

لسنا هنا بصدد البكاء على الأطلال ولا بالحنين لعهد ذهبي وهمي علما بأن التحولات التي تعرفها كل مجالات الاندماج الاجتماعي بما فيها المؤسسات التعليمية قد تمثل مجالا خصبا لبروز رؤى وتصورات تحررية ومنطلقا للخلق والابتكار ولكننا نلاحظ أن المجتمع يعيش وكأنه منصهر في تاريخ ماضي وآتي في نفس الوقت يحمل في طياته معاني تنبثق من المجتمع لا بصفة إرادية ولكن كنتيجة طبيعية لتطوّر الأمور. في هذا الإطار وهذه الصورة العامة نتساءل : أي معنى للتعليم وللمؤسسة التعليمية؟ ما هي المعلومات والمعارف التي تقدّمها هذه المؤسسة إذا كان المجتمع لا يقدر على تصوّر ذاته كما هو عليه وإذا كانت كل الأبعاد الخاصة بالنظام التعليمي والقيم والمعايير التي تشير لها قد فقدت كل معنى بالنسبة للجميع؟

-IV- حول المجتمع البيداغوجي :

لماذا التعليم؟ لأي هدف ووفق أي وسائل ومناهج؟ لا يمكن أن نحصل على الجواب سوى من رحم المعايير التي تحكم المجتمع. في الحقيقة نحن نرث نظاما تعليميا مستوردا في هيكلته ونظامه من المجتمعات الغربية التي أرست دعائم مدرسة جمهورية تستمدّ جذورها مما اصطلح على تعريفه بالحداثة. في القرن التاسع عشر حدّدت أهداف التعليم العمومي في "تكوين المواطنين المستقلين ونشر المبادئ الأولية للثقافة المعاصرة وإيقاظ العقلية الرتيبة والمتخلّفة لسكان المناطق الريفية". لكن وفي نفس الوقت تجاوز الدور هذه الأهداف ل"توحيد الأمة بالقضاء على التنوعات الجهوية واللغوية وغرس الروح الوطنية لدى التلاميذ والولاء لمبادئ الثورة الديمقراطية وأحداث أخرى ترمز لنشأة الأمة". منذ اللحظة الأولى يتراءى لنا خلط بين مبادئ ديمقراطية وأخرى لا ديمقراطية وهذه الأخيرة قد حوّلت أهداف التعليم العمومي إلى أقلمته مع الأهداف الصناعية أي أهداف الإنتاج الصناعي. فالهدف الأسمى للمدرسة الجمهورية يبرز في ارتباط وثيق مع الشروط التاريخية والاجتماعية للمجتمع الذي برزت فيها. لهذا فكل دعوة لإصلاح قطاع التعليم دون اعتبار لهذا المعطى الجوهري يظل عملا مآله الفشل الذريع. فالنقاش المغشوش والخاطئ بين حداثيين ومحافظين أو بين معاصرين ومتشبثين بالأفكار القديمة يرتكز على وهم يشترك فيه الطرفان مفاده أن عوامل أزمة المدرسة كما سبل علاجها الممكنة تكمن فيها ومن داخلها أو في البرامج التعليمية والحال أن الظرف العام الذي يؤطر للتعليم هو المسؤول عن كل ذلك. حتى في حالة تناقض الإصلاحات وتباينها لا يتبادر لذهننا ولو للحظة أنها لم تخضع لدراسة عميقة. فهذه الإصلاحات التي تبدو للوهلة الأولى متعددة تندرج ضمن نفس المشروع الشامل. ليس المجال هنا للتنديد بمؤامرة مزعومة ولكن علينا أن لا نغترّ أيضا بالعزيمة التي تقف وراء هذه المحاولات على صدقيتها. في الحقيقة ورغم تتالي هذه المشاريع وتعاقبها لم يحل ذلك دون تدهور المستوى التعليمي وقد تعرّض لذلك عديد المفكرين خصوصا في الغرب. فهذا المفكّر الفرنسي Jean Claude Michéa يحدثنا عن « تعليم الجهل » وهذا المفكّر الأمريكي Christopher Leach يصف دور المؤسسة التعليمية في « بث بلادة الذهن » وكل ذلك يبرز تحولا أنثروبولوجيا لا تقف وراءه المؤسسة التعليمية فحسب بل كل المجتمع الغربي وكذلك مجتمعات بلدان الجنوب التي ما فتئت تساير الموجة العالمية. المفكرة حنة أرندت Hannah Arendt في كتابها « أزمة الثقافة » تلخص هذه الوضعية كما يلي :" يقوم المدرسون بدور الممثل لعالم لم يساهموا في وضعه ولكنهم يشعرون بواجب تحمل مسؤولية الحفاظ عليه حتى وإن كانوا يبتغون في قرار أنفسهم تخطيه وتصوّر شيء مغاير له. على كل من يرفض تحمّل هذه المسؤولية أن يتجنّب إنجاب الأطفال أو تحمل مسؤولية تربيتهم". إذا غابت الرغبة في المساهمة في بناء مجتمع فأي مسؤولية علينا تحملها وتجاه أي عالم ومجموعة؟ لا غرابة في أن يتملص الجميع من مسؤولية تربية الأطفال. فاللامسؤولية أصبحت سمة خاصة للفرد الأنثبولوجي الجديد الذي شهدت بروزه العقود الأخيرة. في مجال التعليم تجسّد ذلك في ذلك الوهم الذي يروّج له والذي مفاده أن هناك تطابق تام بين التربية والتعليم أو بين التربية والدراسة وبين المربين والمدرسين (قل للمعلّم وفّه التبجيل، كاد المعلّم أن يكون رسولا) وتجسّم أيضا في تضخيم دور المدرسة في تربية الأطفال. قي هذا الإطار يجب أن نفهم احتكار المدرسة لعديد الأنشطة ومجالات التعليم التي كانت في السابق من مشمولات العائلة سواء تعلّق الأمر بالأشغال اليدوية والعائلية أو بالتربية الأخلاقية وبتوجيه السلوك وحتى في القضايا المتعلقة بالمسائل الجنسية (وهذا الأخير جلي بالخصوص في البلدان الغربية). لقد افتكت المدرسة ووسائل الإعلام والاتصال من الأولياء سلطتهم. فالثقافة الجماهرية من خلال صناعة الدعاية ووسائل الإعلام وتوفير الخدمات الصحية قد استحوذت على جزء هام من الوظائف الخاصة بدمج الطفل في المجتمع والتي كانت توكل عادة للعائلة. تجد هذه الظاهرة المتمثلة في تخلي العائلة عن عديد المسؤوليات لصالح وسائل الدعاية والإعلام والمؤسسة التعليمية تفسيرا لها في عملية التمدرس ذاتها.

لقد بنيت فكرة التمدرس ذاتها على تعارض تام مع الممارسات التربوية الموجودة والحاصلة والمتراكمة على مدى التاريخ. هيمنت المدرسة على كل جوانب التعليم والحصول على المعارف بصفتها الوسيلة الوحيدة للتربية. رغم كل محاولات المقاومة والتردّد التي عرفها التاريخ فقد وقع فصل الطفل عن الكهول وإبعاده عنهم ليلقى به بعد ذلك في المجتمع وقد صاحب ذلك انغلاق يكاد يكون تاما للطفل ما فتئ يتعمٌق وهي ظاهرة تصحب وتواكب ظاهرة التمدرس. من ناحية أخرى زادت سنوات التدريس سواء بالنسبة للأطفال أو الكهول بحيث أجّل الاندماج في المجتمع إلى سن متقدّمة. أصبحت التربية والتعليم حكرا على المدرسة وعلى المؤسسة التعليمية. كذلك ساهم نوع خاص من البيداغوجيا العصرية في تعويض أشكال التربية من خلال الألعاب العفوية والنشاطات شبه المدرسية وفي فرض نوع من السلطة البيداغوجية وهذا جلي بالنسبة للأطفال بحيث أصبحت كل الألعاب تثقيفية بما في ذلك بعض البرامج التلفزية المعدّة للأطفال.

لكن هذا المثال الوهمي لدراسة تطول سنواتها وتعتبر كشرط أولي لكل تقدّم وهذا الابتكار الجديد على حدّ تعبير ِChristopher Leach والمرتبط مباشرة وبصفة لا تقبل الانفصام بتقدم الأمم علاوة عن أنه يجنّب الكهول تحمل جزء هام من مسؤولية تربية الأطفال التي كانت من مشمولاتهم، يحوي في كنهه عناصر هدامة ومتعارضة مع الغاية من تربية الشباب. فالتعليم المدرسي يمدّد فترة الشباب ويجعل الشاب خاضعا لمراقبة جسمية لصيقة وفق تقييم بيداغوجي صرف ويفصله عن عالم الكهول بل وأكثر من ذلك تثبط عزائمه وتمنعه من البحوث والاكتشافات المستقلة وتحول دون إمكانية تماهيه مع تصورات أخرى غير تلك المعهودة والمعروفة. من ناحية أخرى شمل التعليم فئات واسعة. فلقد توسّع مفهوم التمدرس ليطال مختلف فئات المجتمع من خلال تبني مفهوم التعليم على مدى الحياة أي الاستعداد الدائم للتعامل مع المستجدات والتحوّلات التي يفرضها التقدّم التكنولوجي وما يفرضه من أنماط تسيير جديدة. في هذا المجتمع البيداغوجي تطغى إذن فكرة التشبيب الدائم. لا يجسّد هذا التوجه المعاصر فقط هربا من امتحان الموت والوعد بشباب يافع ودائم من خلال التعلّم ولكنّه يكرّس حالة من قبول الكهول لطفولة أو شباب دائم لأنّ المجتمع لا يعترف سوى بالطاقات المنتجة. من ناحية أخرى وبفعل تسارع التحوّلات التكنولوجية يحسّ الكهل بحالة من العجز الدائم عن التأقلم وهي حالة أقل ما يقال عنها أنّها طفوليّة. الأدهى من ذلك أنّ الكهل أصبح تلميذا يرتاب من روّاد الحداثة الذين ليسوا في الواقع سوى أبناءه الذين يرى فيهم مثالا للتأقلم بل وحتى للحكمة بما أنهم يتمتّعون بقدرات فائقة تمكنّهم من التفاعل مع الطفرات الالكترونية التي يشهدها العالم. يجسّد الشباب النموذج الأكثر صفاء واستجابة للشروط العامة والعميقة التي يجب أن يكون عليها إنسان العصر. إذن علينا أن نكون على استعداد دائم للتقبّل. وحدها العادات المفروضة والخارجة عن إرادتنا تحدّد لنا مشاغلنا وأنماط عيشنا دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّنا استنبطناها أو قدّرنا قيمتها. فنحن نخضع لسلطة تعجز أن تعلن نفسها. في الظاهر نحظى بحقوق محفوظة لكنّها تظل شكلية ما دمنا نفتقد القدرة على الاختيار ونشعر أن عملنا يفقد معناه وأهميته كلّ يوم. حيال حياة متخمة بالأشياء المعدّة للاستهلاك نشعر براحة وأمن مادّي نسبي ولكنّه مصحوب بحيرة وقلق. فالقوّة التي تحملها التكنولوجيا والوفرة التي تصحبها تترافق مع شكّ وريبة وخوف من المستقبل.

-V- تـفـكّك النّـظام التّعليـمي

ما المدرسة؟ هو مجال يتجمّع فيه أطفال وتلاميذ من سنّ محدّدة للحصول على المعرفة ويخضع نظام الدراسة فيه لبرنامج وتوقيت ونظام سلوك. التصوّر الغالب لدى الأولياء للمدرسة هو كونها حصنا للأطفال من مخاطر المجتمع والشارع وهي الوسيلة الوحيدة للتربية والتعليم والحصول على المعارف كما أنّها تساهم في تحديد السلوك السليم والأخلاق وتهيّئ الطفل للحياة الاجتماعية وللحصول على شهادة تمكّنه من ضمان شغل يكفل له حياة كريمة.

يعبّر العديد من الملاحظين عن قلقهم الشديد لما آلت إليه المؤسسة التعليمية سواء في البلدان المصنّعة أو بلدان الجنوب. فالتلميذ الذي يحرز على شهادة الباكالوريا يعجز في غالب الأحيان عن تحرير نصّ دون القيام بأخطاء تركيبيّة ونحوية بسيطة. من ناحية أخرى أصبحت المؤسسة التعليمية التي يراد لها أن تكون أداة من أدوات التربية مجالا للعنف والسباب والتهديدات مما جعل المدرسين يتذمرون من حالة التسيّب ويلقون اللوم على الأولياء بينما يحمّل الأخيرون المسؤولية للأساتذة والمؤسسة التعليمية. بين سنة 1980 وسنة 2005 ارتفعت نفقات التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 73 بالمائة وزاد عدد الأساتذة مع عدد التلاميذ ولكن ذلك لم يساهم في تطوّر المؤسسة التعليميّة. فهذا بيل غيتس يلاحظ في محاضرة شهيرة أنّ مدارس الولايات المتحدة الأمريكية تعرف إفلاسا رهيبا. فثلث المتحصلين عل شهادات جامعية فقط قادرون على القيام بدورهم كجامعيين. بين سنة 2000 وسنة 2006 تراجعت قدرة تلاميذ المعاهد الثانوية على القراءة بصفة ملحوظة في أسبانيا واليابان والنرويج وإيطاليا وفرنسا وروسيا وقد تراجعت أيضا في ميدان الرياضيات في فرنسا واليابان وبلجيكا وغيرها من البلدان المصنّعة.

الكلّ يتفق على أنّ المؤسسة التعليمية في أزمة بدءا بالمسؤولين عن القطاع التعليمي إلى الأولياء والمدرسين وذلك مهما تباينت أفكارهم واتجاهاتهم والكلّ أيضا يتفقون على أن طبيعة الأزمة تتجسّد في عدم تلاؤم التعليم مع المجتمع من ناحية ومع مقتضيات ما يعرف بـ« سوق الشغل ». فلا المدرسة قادرة على إعداد جيل يستبطن بصفة كليّة معايير وقيم المجتمع ولا هي قادرة على توفير يد عاملة مختصة قادرة على تحمّل مسؤولياتها في الدورة الاقتصادية كما أراد لذلك المسؤولون. بطبيعة الحال يمكن أن تبرز من داخل مؤسسات التعليم أشكال للنقد وحتى المقاومة لما هو مهيمن وسائد وما هو موروث وما يراد تبليغه من خلال التدريس. في خضمّ هذه الأزمة تنشأ صراعات وتباينات بين دعاة المدرسة بصفتها مركزا لنشر العلم وتبليغ المعارف الحاصلة وبين أخرى تركّز على جانب التكوين والإعداد لأجيال قادرة على التأقلم مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي وعادة ما يحسب الموقف الأوّل على اليسار بينما يحسب الموقف الثاني على اليمين. في الحقيقة لا هذا ولا ذاك تمكّنا من وضع أسس وخطط للخروج من الأزمة لكون مواقفهما لا تخلو من سطحية ونظرة وحيدة الجانب. فالمعلومات لا تعني المعرفة وحفظها لا يعني القدرة على التحكّم فيها والانتقال إلى مرحلة الإبداع والخلق والتربية ليست حكرا على المؤسسة التعليمية كما أنّ احتكار المؤسسة التعليمية للمعارف قد مثل أحد عناصر أزمتها الداخلية هذا دون اعتبار التحوّلات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية التي عرفتها العقود الأخيرة وانعكاساتها على الاختيارات البيداغوجية من ناحية وعلى التعليم ذاته. أمّا من وجهة النظر النفعية الخالصة فهناك تصوّر طاغي في أوساط المقرّرين مفاده أن تبليغ المعلومات لم يعد بالأمر الجوهري بل لا بدّ من تكوين تلاميذ وتهيئتهم للتفاعل مع المتغيّرات خصوصا منها التكنولوجية. في الحقيقة لا تبليغ المعارف العامة المكتسبة ولا التكوين الذي لا يهتم بالحصول على المعارف بقدر ما يهتم بإعداد النشئ لسوق الشغل يستقيم. فالتكوين يقتضي الحصول على المعرفة والمعرفة الخالصة لا تتسم بالضرورة للتلميذ بالتحرر والاستقلال والانتقال من الحصول على المعارف إلى التعلّم الذاتي والبحث والخلق. لكن لقائل أن يقول : أيّة معرفة وأي خلق وأيّة مسؤولية تعليمية وأية مبادرة ولأي مجتمع؟ فأهداف المدرسة والمؤسسة التعليمية بصفة عامة لا يمكن فهمها سوى عبر تصوّر شامل للمجتمع وللاختيارات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية وحتى البيئية. فالشعارات التي تدعو لتعليم ديمقراطي ومؤسسات تعليمية شعبية وتوفير التعليم لكلّ المواطنين وعلى قدم المساواة تظل منقوصة وإلى حدّ ما سطحية لأنها لا تنفذ إلى عمق المسألة. تعتبر المفكّرة Hannah Arendt أنه من بين أهداف المدرسة تكوين الطفل والشاب من ناحية وضمان تواصل العالم من خلال تبليغ المعلومات وتناقلها جيلا بعد جيل. لكن الطفل بحاجة خاصّة للحماية من هذا العالم الذي قد يحطّمه كما أنّ العالم بحاجة لحماية لكي لا يقع تخريبه من طرف موجة من الأجيال الجديدة والقادمة. إذن المدرسة محافظة ولكنها تكوّن شبابا قد يتجاوز الحدود التي وضعتها المدرسة ذاتها. تاريخيا تأسّست المدرسة الجمهورية في البلدان الغربية على قاعدة وهم مفاده أنه هناك تناسقا بين تطوّر التقنيات في المجتمع وبين التطوّر الذاتي للأفراد وقد فنّدت الثورة الصناعية ذلك باعتبار أنّ العمّال لم يكونوا سوى حلقة في سلسلة من الآليات الاقتصادية تخضع لتقسيم العمل المجزأ والمعروف بالتايلورية. ثمّ جاء وهم ثاني يرى أنّ تطوّر الأتمتة والإعلاميّة من شأنه أن يحرّر الإنسان من الضغوط التقنية ويفتح المجال لتحرّره واستقلاله لكن الحقيقة التي تبدو اليوم بارزة للعيان هي أن هذا المجتمع المعلوماتي والتكنولوجي هو بالدرجة الأولى بحاجة لمنفذين قادرين على استعمال حواسيب وآلات أي متمكّنين من معارف عملية دنيا ولا يستدعي منهم معرفة وذكاء. فلقد دخلنا عصر إيديولوجيا المعارف العملية الدنيا والمهنية (أو التكوين المهني المحدود).

لنتوقف لحظة ولنسائل هذا المجتمع الرقمي. مجتمع الأنامل، الفجوة الرقمية، مجتمع المعلومات، العالم الافتراضي كلّها مصطلحات أصبحت متداولة في عصرنا الحاضر بما أن المعلومة الرقمية قد طغت وأصبحت عبارة عن دم يغذّي قطاعات المجتمع ويربط أجزاءه. فمن الشاشات إلى الهواتف النقالة وشبكات الاتصال والتواصل إلى الأطراف الالكترونية والصور والأفلام والتقارير تنتقل المعلومة في شكل نصوص وفيديو ومشاهد بسرعة فائقة لا تعترف بالحدود والمسافات. يدور الحديث اليوم عن افتقاد هذه الوثائق والمعلومات لطابعها الملموس والمادي بما أن كل أشكال التوثيق والنشر العادي من صحف ومجلات وكتب قد عوضتها الشاشات والأقراص. تنشأ كل يوم منتديات وفرق مجموعات رقمية تتصل ببعضها عبر آلاف الأميال دون أن تلتقي ولو يوما. يمكن مشاهدة برامج تلفزية وأفلام عبر هواتفنا الجوالة ودون التوجه إلى قاعة سينما كما يمكن للمؤسسات والمصانع أن تتخلى عن الوثائق والملفات لتستعيض عنها بالتوثيق الرقمي. تتصارع الشركات العالمية مثل مايكروسفت من أجل الهيمنة على مخزون المعلومات والتحكم فيه وتوفيره. على امتداد مساحات واسعة تشيد مؤسسات مثل Google مقرات لها تخزّن فيها المعلومات. من المعلوم أن صناعة المعلومات « اللامادية » نهمة وتستهلك كميات هامة من الماء والكهرباء وهي صناعة ملوثة. في ولاية أوكلاهوما أقرّت السلطة المحلية قانونا يسمح للمؤسسات المختصة في إنتاج الكهرباء بعدم التصريح بكمية الكهرباء التي تستهلكها الصناعة الرقمية. في كل مناطق العالم تعمل مؤسسة Google على بعث مقرّات لها وتتعامل مع مؤسسات مناولة مهمتها توزيع المعلومات كما تنشئ نسيجا من العلاقات مع الجامعات لصنع أنظمة خبيرة Logiciel قادرة على اختصار الزمان والحد من مدة معالجة المعلومة. تحالفت Google مع IBM لتوفير سحابة من مقدمي الخدمات الرقمية Serveurs. أما مؤسسة HP فلقد اشترت مؤسسة EDS بمبلغ 14 مليار دولار. كل مقدم للخدمات يسعى إلى توفير المعلومات لحرفائه ويقدم إغراءات متنوعة ومتعددة لاحتكار أكبر عدد من المشتركين. استقلال الأفراد والمؤسسات وحتى الأمم لم تعد قضية مجال جغرافي ومشترك ولكنها أيضا مرتبطة بالصناعات الجديدة المختصة في الإنتاج اللامادي. فهذه المؤسسات التي تقدم الخدمات الرقمية أصبحت قادرة على إدارة المعلومة والأفراد بما في ذلك هوياتهم وحاجياتهم وتقدّم الخدمات المعلوماتية للمؤسسات الصناعية كي تندمج في مجتمع المعلومات. فلقد تغيّر مفهوم الانتماء لتعوضه مفاهيم ومصطلحات مثل الحريف والفرد والمؤسسة ويتوحد الجميع حول محور واحد هو الاستهلاك والحصول على المعلومة وتبليغها. يبقى أن المعلومة الرقمية ترتبط بإنتاج مادي ملموس وأن مجتمع الخدمات الرقمي لا يمكن أن يتغاضى عن الحقائق المادية. فنحن لا نلبس ولا نأكل ولا نسكن معلومات لا مادية. لا يمكن فهم « الثورة الرقمية » دون ربطها بالمشروع الدولي الذي يتمحور حول التجارة العالمية وتحويل العالم إلى مجال تجاري عالمي تقوده مؤسسات عالمية تحتل فيه الولايات المتحدة الأمريكية موقع الصدارة. فهذا الرقمي واللامادي يعتمد المادي (آلات، مواد، مصانع،...) ويرتبط باقتصاد عالمي مادي وحقيقي. هو يحمل في طياته مشروعا كونيا ويستند لرؤية عنوانها : الكل التجاري على حساب المحلي والجهوي والوطني. لكن الأزمة المالية العالمية الأخيرة قد أبرزت للجميع حدود هذا المجتمع الرقمي والافتراضي وأعادت للأذهان حقائق ترتبط بالواقع الملموس. ما علاقة كل ذلك بأزمة التعليم والتشغيل؟ نعود ونقول هناك تعليم نخبوي شديد الاختصاص مرتبط أشدّ ارتباط بالدوائر المالية والمؤسسات الدولية سواء بصفتها مموّلة أو مشغّلة وهناك تعليم أساسي واسع لا يتطلّب توفير معارف وثقافة ولكن تهيئة جيل واسع لما أصبح يعرف بالكفاءات والكفاءات المهنية للقيام بشغل محدود الاختصاص وقابل لإعادة التأهيل على ضوء المتغيّرات التكنولوجية. إذن لقد انهارت تلك الصورة المثالية التي تجعل الدور الأساسي للمؤسّسة التعليميّة تمكين كلّ الأطفال والتلاميذ والطلبة من أدوات تسمح ببناء علاقات فردية وجماعية مع العالم المحيط بحيث يساهمون في نحت معالمه كلّ مرّة. لكن لسائل أن يسأل : من الذي قرّر أنّ هذه المؤسسة هي الوحيدة المؤهّلة لذلك؟ أليست المؤسسة التعليمية كغيرها من المؤسسات تصوّرا خياليا بشريّا قد ارتبطت تاريخيا بأهداف اجتماعية وسياسية محدّدة؟ ثم ألا يمثل احتكار المؤسسة التعليمية لهذه المهمّة أحد أسباب فشلها وأزمتها؟ فهذه الإصلاحات المتعاقبة لم تعد تجدي. من ناحية أخرى نعاين تردّي المستوى العلمي والثقافي للتلاميذ والطلبة واعتماد سياسات تستند إلى ما أطلق عليه البعض بدراسة النجاح. فالمهم هو الانتقال من قسم لآخر والحصول على المعدّلات التي تسمح بالارتقاء وسيقوم الانتقاء بفرز النخب. فسواء نادى البعض بما نطلق عليه بجمهرة التعليم أو بتخصيص التعليم خصوصا منه الجامعي للأقلية القادرة على مسايرة البرامج وفرض انتقاء صارم فإن النتيجة تبدو متقاربة إذ نلحظ تدني المستوى التعليمي بينما لم تعد شهادات النجاح كفيلة بضمان الشغل. في الحقيقة لا يعود تفكك النظام التعليمي إلى انعدام التمدرس أو نقصه وتراجع الرتبة العالمية للجامعات كما يتراءى للبعض المولعين بالحسابات والمقارنات بين المؤسسات التعليمية بل إلى عوامل أخرى أشمل وأعمق. علينا أن نوجّه إصبع الاتهام إلى انهيار التعليم كمؤسسة في حدّ ذاتها. فعادة ما تتجنّب مقاربة هذه المؤسسة للتصوّر الفلسفي والسياسي وتتلخّص في إجراءات تقنية بحتة. فنحن أمام تعليم « عصري » يتصبّب عرقا ولكنه لازال يحافظ على وجوده رغم حالة الإرهاق التي تطاله. نعلم جيّدا أنّ دور التربية التي يوفرها العالم المعاصر ترتكز على تقديم المدارس تعليما صرفا و« محايدا ». لكن هذه الأخيرة تروّج يوميا من خلال وسائل الإعلام والاتصال لسياسة وعمران وصحّة وفنون... فهذه التربية تمارس في كلّ الأماكن وفي كلّ لحظة. يعبّر عن ذلك المفكّر كاستورياديس بمقولة شهيرة : "جدران المدينة والكتب والعروض والأحداث تربي- يُنفخ في كلّ ثقوب المجتمع". أفلاطون كان يؤكّد منذ عهود خلت أنّ المدينة تربي الأطفال والمواطنين. لكن ما تغيّر في العقود الأخيرة خصوصا هو أنّ هذه التربية التي تحصل من خلال جدران المدينة لا تؤدّي إلى تربية تسمح بالاستقلال الذاتي والتي مثّلت إلى حدّ بعيد وخلال التحوّلات التاريخيّة التي عرفتها الشعوب المثل الأعلى والهدف السامي (الثورة الفرنسية-الأنوار-مقاومة الاستعمار-تكوين الدول المستقلة...). ففي الفترة الأولى من حصول البلدان على استقلالها كان المعلم والأستاذ يحظيان باحترام كما كانت المؤسسة التعليمية تحاط بقداسة بصفتها الوسيلة الوحيدة للخروج من التخلف والالتحاق بركب الحضارة وبناء الدّولة. لكننا اليوم نلاحظ تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة لعلّ أهمّ سماتها هيمنة الخبراء والمحترفين في كل المجالات والدور المتعاظم للبرامج التلفزية السخيفة وما تبثه من أوهام واحتكار الصور الدعائية للمجال البصري في الشوارع وكلّما يتناقض مع التربية سواء الموجهة للأطفال أو المواطنين بصفة عامّة. فبعض الملصقات الدعائية تشير إلى ألعاب الفيديو التي لا تخلو من عنف وقد توحي بأحكام مسبقة. الكلّ يتذكّر تزاحم الأطفال والمراهقين لحفل لفرقة موسيقيّة وما نتج عنه من موت وجرح عدد من الحاضرين وذلك بعد أن طبّلت لها وسائل الدعاية. اليوم لم تقتصر الدّعاية على جلب الانتباه لمنتوج ما بالتعرّض لمزاياه المزعومة بل إنّها تصنع منتوجها ذاته : إنّه المستهلك الذي يشعر دائما أنه لم يشفي غليله ويتخبّط في حالة من القلق والغيظ من عدم حصوله على الأشياء المتوفرة والتي قد يعجز عن شرائها. الدّعاية « تربّي » الجموع على الشعور بالرغبة الجامحة التي لم تقع تلبيتها ولقد أصبحت تمثل تعويضا لأمراض العائلة ومصاعبها ولحالات الوحدة والإرهاق وربّما العقد الجنسيّة. لقائل أن يقول ما علاقة ذلك بالتعليم؟

نقول أن الأطفال هم الضحية الأولى لكلّ ذلك. فمن مفارقة العصر أنّه قد أبدع وتفنّن في إبراز الشباب واعتبارهم نموذجا للسلوك المعاصر في الوقت الذي يتعرض فيه إلى شتى أنواع المعاملة السيئة والتلاعب بفكره وإحساسه وقدراته. هكذا وقع إقرار سنة للشباب. فنحن شباب الغد !!! لكن وسائل الدّعاية والإشهار تريد من الأطفال والتلاميذ أن يقوموا بدورهم في الصفوف الأماميّة في اختيار المواد التي تستهلكها العائلة كمحرّضين لأوليائهم لشراء كميات متزايدة من الأشياء. أمّا الكهل فهو يقبل بحالة من نقص النضج مضحيا بصورة مثالية للكهولة لصالح شباب دائم.

لقد أصبح الطفل منذ نعومة أظفاره مستهلكا للبرامج التلفزية قبل أن يصبح تلميذا. في تحقيق أعده فرديريك زمرمان في الولايات المتحدة الأمريكية تبيّن أنّ 40 بالمائة من الرضّع يشاهدون بصفة دوريّة التلفزة وأقراص الفيديو والتسجيلات المرئية وقد تبلغ هذه النسبة 90 بالمائة ببلوغ الطفل السنة الثانية من عمره وذلك يوميّا. في فرنسا يمضي الطفل معدّل ساعتين و15 دقيقة في مشاهدة التلفزيون يوميا وهي مدّة تتجاوز كلّ نشاط آخر. من نتائج هيمنة وسائل الاتصال وبالأخصّ التلفزيون الحيلولة دون قيام الطفل بأنشطة أخرى ولكن الأهمّ من ذلك أنّها نجحت في تحويل الطفل إلى مشاهد وحريف قارّ. فدمج الطفل في المجتمع من خلال التلفزيون يعني التحديد من علاقاته مع محيطه البشري المباشر وحتى الحيلولة دونها. إنها عملية دمج دون اتصال مباشر ودون علاقات مع أي كان يخضع لها الطفل وذلك دون مقاومة أو ردّ فعل يذكر أو التعبير عن اختلاف ويجنبه ذلك المصاعب التي قد تظهر بالضرورة خلال العلاقات مع الآخرين. لا ننسى أيضا أن مشاهدة التلفزيون عادة ما يصحبها تناول المشروبات الغازية والأكلات المضرّة بالصحّة. من بين انعكاسات خضوع الطفل لأجهزة الدعاية تلك المتعلقة بالسلوك (عدم استقرار، إضاعة الوقت في التنقل من محطة تلفزية إلى أخرى، ضعف القدرة على التركيز، الانقطاع عن الواقع...). نضيف لذلك التأثيرات ذات الطابع الإيديولوجي والتي يمكن تلخيصها في الشعار المتعارف : "تحصّلوا، تمتّعوا ما أمكن لكم. أما ما عدا ذلك فهو ثانوي وغير ذي قيمة". يتأثر الأطفال حتى بالهندام : جينز هابط، استعمال « الجال »، استعمال الهاتف المحمول كوسيلة لسماع الأغاني... في معظم الحالات التي يتوجه فيها الطفل إلى وسائل الدعاية والإعلام للحصول على التربية والمعلومة يفاجأ بالخصوص بصورة لذات عنيفة وممزّقة يتماهى معها. أخيرا يؤدّي ذلك إلى الاستعاضة عن القدرة على التخيل والخلق باللهو السخيف. فأطفال هذا العصر يعيشون مع جهاز التلفزة وألعاب الفيديو والهواتف المحمولة. إنّهم يسمعون ويشاهدون وعندما يشعرون بالفراغ يحثون أولياءهم على الشراء ويلحّون في الطلب لأنهم لا يتخيّلون وسيلة أخرى للانشغال في شيء ما غير المشاهدة والشراء والاستهلاك. لا مجال لتطوير القدرات الذهنية على الابتكار. كلّنا يعلم أنه يمكن تصوّر قصّة أو أوضاع من خلال ألعاب بسيطة قد لا ترقى إلى قدرة الوسائل الدعائية على الأخذ بمهج الأطفال. فتطوير الخيال الخلاق للأطفال والقدرة على الغوص في عالم رحب كانتا من بين الأهداف والمشمولات الرئيسية للمدرسة. فرغم محدودية المعلومات الظاهرية والتي لا تبلغ المستوى التقني الذي تسمح به تقنيات الاتصال تختفي رغبة جموحة في التصوّر والحلم. حتى الصورة البسيطة الأكثر تشوّشا وغموضا قد توحي للطفل بالسفر في عالم المعاني والفكر والأخيلة وحتى دقة التواريخ والوقائع فهي لا تمنع الطفل من العودة للماضي ولأحداث وقعت. فهذه العلوم ذاتها تتحدّث عن مباهج الطبيعة وألغاز العالم. اليوم تغيّرت أسس وركائز عملية التخيّل لدى الطفل لتحتكرها الصورة والمشهد. فتطوّر الاتصال الجماهيري وخصوصا جهاز التلفزيون قد غيّر في الأساس الشروط التي تكيّف نموّ الطفل وبالتالي غيّر بصفة جوهرية العلاقات بين الطفل والمدرسة. فالصناعة التلفزية تقضي على أسس التربية. فما يقوم به الأولياء والمربّون من نشاط دؤوب ومرير لتبليغ الطفل منذ نعومة أظفاره أهمّ تراكمات الحضارة الإنسانيّة تنخره الصناعة السمعية والبصرية يوميا من خلال تقنيات عنيفة وسخيفة في نفس الوقت الذي توجّه فيه أصابع الاتهام للعائلة وللنظام التعليمي بصفتهما المسؤولان عن هذا الانهيار الذي تعرفه التربية. لكن لماذا تخلت العائلة عن مسؤولياتها؟ يفسّر بعض اليساريين عادة استقالة العائلة بتدهور الحالة الاجتماعية للعائلات بحيث ينشغل الأولياء في العمل لكسب القوت ويعجزون عن توفير الوقت الكافي للعناية بأبنائهم. ماذا يكون موقف الطفل من أب وأمّ يعجزان عن توفير ما تبثّه وسائل الدعاية من إشهار وما يتوفر لغيره من الأطفال؟ في الواقع هذا التفسير وحيد الجانب لأن تراجع دور العائلة لا يخصّ فقط الطبقات الفقيرة وإن كانت هذه الظاهرة أعمق في أوساطهم. من المفارقة أن العائلة قد تحوّلت إلى ملاذ وحماية وهذا بارتباط بتقلّص العلاقات الاجتماعية وتعمّق الفردانية الضيقة. ثمّ إن العائلة عادة ما ترفض تدخّل أي سلطة خارجيّة موجّهة إلى أطفالهم بل أنّه في عديد الحالات يتصل الأولياء بالمدرّسين محتجين على عقاب سلطوه على أبنائهم معتقدين أنّهم قد قاموا بدورهم على أحسن وجه وربوا أبناءهم أحسن تربية بل أنّهم أيضا وحدهم المسؤولون عن ذلك، هذا في الوقت الذي يطالبون فيه المدرسة بالعناية بتهذيب سلوك أبنائهم وتربيتهم. أما المجال الخارجي فهو يبدو للأولياء مخيفا ومحفوفا بالمخاطر والتأثيرات السيئة والحال أنه من المفروض أن يجسّد المجال العمومي بعد أن وقع إعداد الطفل من طرف العائلة والمدرسة. يتناسى هؤلاء أن المخاطر الحقيقيّة تأتي من داخل البيت ومن الشاشات. بالمقابل نلاحظ تراجعا هاما للمجال العمومي عن تربية الطفل بينما تفشل العائلة في تبليغ آرائها وفرض تصوّراتها. فالتلفزيون يغرس في ذهن الطفل خلطا بين ما هو واقعي وما هو وهمي، بين الأنا والآخر، بين الحضور والغياب ثم هاهي ذي النيوليبرالية الفاحشة بصدد القضاء على كلّ المؤسسات والأشكال الجماعية. فصناعة الفرد المعاصر الذي ساهمت في صياغته الشاشات والمؤسسة التعليمية لم تؤدّ سوى إلى تدنّي الوظيفة النقدية. فالأولى تتسبب في اضطراب في العالم الرّمزي والنفسي للطفل والثانية تعلّمه أن المعنى الحقيقي للتعليم هو مراكمة المعارف والحصول على شهادات.

عادة ما ينحصر نقد المدرسة التعليميّة في تقييمها من الدّاخل (سلوك التلاميذ – موقف المدرسين – العلاقة بين التلميذ والأستاذ – برامج الدّراسة – القضايا البيداغوجيّة – نسب النجاح...) ولقد اهتمّ العديد من المفكّرين وعلى رأسهم المفكّر النمساوي Ivan Illich بالموضوع وذلك في كتاب شهير : "من أجل مجتمع دون مدرسة" حيث نقد المؤسسة التعليميّة وأبرز فشلها من خلال تراجع المعارف وتدنّي المستوى التعليمي والثقافي للتلاميذ وتراجع الفكر النقدي لدى التلاميذ والأساتذة على حدّ سواء.

يعتقد Ivan Illich أنّ ضمان تربية كونيّة من خلال المدرسة مشروع غير قابل للتحقيق ويدلّل على ذلك بعديد الأمثلة المستقاة من الواقع. من بين العناصر التّي اهتمّ بها تلك التّي تتعلّق بمأسسة القيم أي جعل القيم تخضع لمقاييس المؤسسة التعليمية. فالمدرسة تحقّق التعليم والتربية والمستشفى يضمن الصحّة والشرطة تحقّق الأمن أي أنّ الإنسان يتخلّى عن مسؤوليّاته ويسلّم مصيره لهذه المؤسسات ويتقبّل كلّ ما يصدر عنها ويتجنّب الحصول على المعارف من خارج المدرسة ويتخلى عن مسؤووليته عن صحّته لصالح المؤسسة الصحية ..... فهذا الخلط يؤدّي إلى غرس عقليّة العجز والتقبّل وإلى حالة من التبعيّة المقيتة تجاه المؤسسة والاستعاضة عن الحاجة الأساسيّة بفرض الطلب على المواد المستهلكة وتصوّر مفاده أنّه لا يمكن تحقيق أيّ شيء من خارج المؤسسة التعليميّة وهذا يحدّ من « الإنتاجيّة » والقدرة على الإضافة والخلق.

كما يتّهم Ivan Illich المدرسة بفقدانها للنجاعة. فأهمّ الأشياء التّي يبتغي المرء تعلّمها عادة ما تنبع من خارج المؤسسة التعليميّة ومن ظروف غير محدّدة مسبّقا كالرغبة في تعلّم لغة أو كفاءة جديدة. كما أنّ كلّ نشاط عملي يشترط فيه الحصول على شهادة من إحدى المؤسسات التعليميّة وفي أغلب الحالات لا ترقى المعرفة العمليّة لصاحب الشهادة لمستوى عصاميّ أو شخص تعلّم من خلال الممارسة ودون اللّجوء إلى المؤسسة التعليميّة. لقد كرّس هذا الوهم هيمنة الخبراء في جلّ الميادين الصناعيّة منها والزراعية والبيئيّة والثقافيّة ولكنّ ذلك لم يحل دون الكوارث التّي تشهدها هذه الميادين. فالعقلانيّة التّي ترسّخت داخل المؤسسة التعليميّة تبدو متحجّرة ولا تقبل بمراجعة ذاتها وهذا ما يفسّر الفواجع التّي يعرفها العالم باسم العلم والتكنولوجيا (التحوير الجيني – إهدار المصادر الطبيعيّة – القضاء على البذور – القضاء على التربة – التلوّث –تفكيك العلاقات الاجتماعيّة – الحروب...). تعمد المؤسسة التعليميّة أيضا إلى الفصل بين الحصول على الكفاءة المهنيّة وبين التربية الثقافيّة التّي تعتمد المبادرة والخلق. من ناحية أخرى تغرس المؤسسة المدرسيّة فكرة تقبّل الهرميّة والاستحقاقيّة. في الحقيقة لم تعد المدرسة والجامعة وسيلة للارتقاء الاجتماعي كما يتصوّر البعض. فهذه خدعة سقط فيها الفقراء. كما أنّ المؤسسة التعليميّة باحتكارها للتربية تحطّ من دور العائلة وتضع حدّا فاصلا بين ما هو مدرسي بحت وما هو خارج المدرسة والذّي يعتبر دون فائدة أو قيمة تذكر. يتّهم Ivan Illich المؤسّسة التعليميّة بكونها قد ساهمت في إبقاء الأطفال في حالة طفولة دائمة وذلك لإعدادهم للمجتمع الصناعي ومجتمع الاستهلاك كما أنّه يرى أنّ جمهرة التعليم وتعميمه مسألة مستحيلة مستشهدا بارتفاع تكاليف التعليم. كبديل لاحتكار المدرسة للمعارف والتربية يقترح المفكّر إعادة الاعتبار للحياة الاجتماعيّة واللّهو وتقاسم المعارف بين النّاس كوسيلة للتربية والتعليم الذّي عليه أن يرتبط برغبات المواطن وميوله. يستشهد المفكّر بعديد الأمثلة من ذلك أنّ مواطنا برازيليّا قد توصّل إلى تعليم القراءة والكتابة لأميّين في ظرف 40 ساعة دون اللّجوء إلى المؤسسة التعليميّة. يفرّق Ivan Illich بين الكفاءات المهنيّة والثقافة. فإذا كانت الأولى تكتسب في علاقة بمختصّ وخبير فإنّ الثانية تكتسب من خلال العمل الجماعي والبحث المشترك ويقترح إيجاد مجالات لتبادل المعارف ونوادي علميّة وثقافيّة وبيئيّة...

من الأكيد أنّ كتابات Ivan Illich حول اللّغة والمدرسة والمؤسسة الصحيّة والبيئيّة والتحابب والعمل تشكّل مصدرا هامّا يوحي بعديد الأفكار الجديدة والفذّة والتّي لازال صداها واضحا في الكتابات المعاصرة. لكن علينا أيضا أن نتعامل معها بروح نقديّة تماما كما دعا لذلك Ivan Illich نفسه.

يؤكّد المفكّر Paul Ariès التشخيص الذّي توصّل له Ivan Illich حيث يرى أنّ المدرسة الحاليّة ترسّخ أوهاما ضروريّة لاستمرار النّظام الاجتماعي القائم من ذلك أنّه يمكن التقدير الكمّي (الأعداد – الشهادات – السيرة الذّاتيّة – مراحل الدّراسة – الكتابات...) وفرض الهرميّة واستبطانها. فالطفل الذّي يقبل بالهرميّة داخل المؤسسة التعليميّة سيقبل بها في المجتمع كما أنّ علاقة المدرّس بالتلميذ تتّسم بالهيمنة والتسلّط. ترفض المدرسة إمكانيّة تبليغ المعلومات والمعارف من خارجها. يمكن تشبيه المدرسة بمجتمع اقتصادي يتكوّن من أستاذ يوزّع منتوجا لتلامذة مستهلكين. النتيجة هي أنّ المدرسة باحتكارها لمهمّة تبليغ المعارف لم تقم سوى بتربية مضادة ومناقضة لأصل التربية ومعناها. تماما كما أنّ مؤسسات الصحّة أصبحت مسؤولة إلى حدّ كبير في جعل المواطنين مرضى والسرعة قد أدّت إلى البطء (اختناق الطرقات).

يدعو اليسار التقليدي إلى ديمقراطيّة التعليم وتعميمه متمسّكا بذلك الشعار المتآكل : "عندما نفتح مدرسة نغلق سجنا". أمّا اليمين فقد استهوته فكرة التخلّي عن المؤسسات التعليميّة العموميّة والتفّ عليها لكي يسخّرها لصالحه علما بأنّ التعليم أصبح مصدرا هامّا لمراكمة المال والاستثمار.

يعتقد Paul Ariès أنّ أفكار Ivan Illich قد وقع استغلالها بل تحريفها وقد يكون ذلك مردّه النقائص والأخطاء التّي سقط فيها هذا المفكّر. فرفض التبليغ العمودي للمعارف قد فتح المجال لوهم ما فتئ يترسّخ مفاده رفض الدّروس التّي تقدّم في القاعات والدّعوة إلى الحصول على المعارف من الملتيميديا والتكنولوجيا والانترنت وهذا يؤدّي إلى تعليم مجزّئ فاقد للعلاقات البشريّة. فالوهم القائل بالقضاء على كلّ المؤسسات التعليميّة قد أدّى إلى عكس ما كان يأمله Ivan Illich كما أنّ الرّغبة في إطلاق الحريّة الفرديّة والجماعيّة والقدرة على الابتكار قد التفّ حولها دعاة سلعنة التعليم وأدّى ذلك إلى القضاء التدريجي على الدّور التعليمي للمدرسة. Illich يحلم بمجتمع يرغب فيه كلّ المواطنين في المعرفة وهذا في تعارض مع التمدرس الجماعي ونحن نوافقه في أنّ المدرسة لا يمكن لها أن تمثّل الإطار التعليمي الوحيد. يرى Paul Ariès أنّه لمواجهة الأزمة الحاليّة الناتجة عن تراجع الفكر النقدي وحب الإطّلاع علينا أن نبحث عن آليّات لدفع الرّغبة في الحصول على المعارف ولن تجدي مختلف الحلول النفسيّة لبلوغ هذا الهدف. هناك تجارب بيداغوجيّة قديمة ومعاصرة يمكن أن نستلهم منها. لن تجدي الإصلاحات التّي تعتمد إدارة صارمة مثل فرض بعض الأزياء وربطة العنق وقواعد سلوك خاصّة بكلّ مؤسسة أو تلك الإصلاحات المعتمدة في معاهد التكوين المهني التّي لا تحثّ على المعرفة العمليّة بقدر ما ترسّخ القدرة على الإذعان لإعداد التلاميذ لنموذج الحياة الاقتصاديّة.

هل نتخلّى عن المدرسة؟ هل نستعيض عنها بمؤسسات تعليميّة أخرى؟ هل نحصر الحصول على المعارف على المؤسسات التعليميّة المعهودة؟ ما من شكّ أنّ كلّ مجتمع بحاجة لمؤسسات سياسيّة واقتصاديّة وتعليميّة وثقافيّة لكن عليه أن يعي أنّ هذه المؤسسات من صنعه وأنّها قابلة للتغيير. من هذا المنطلق فإنّ المسألة لا تنحصر في القبول بالمدرسة أو رفضها لكن على المؤسسة التعليميّة مهما كان شكلها أن تكون أداة لنقل وتبليغ وتمكين أوسع فئات الشعب من الحصول على المعارف مع نبذ تقننة المؤسسة بالحفاظ على العلاقات البشريّة داخلها ودعم العلاقة بين التلاميذ. على المدرسة أيضا أن تساهم في تحرير الطفل من الإطار العائلي للانتقال إلى مجال أوسع وأكثر ارتباطا بالعالم الخارجي وأن تنبذ إدماج العائلة في المدرسة. المدرسة هي أيضا المجال الذّي يتخلّى فيه الطفل عن مبدأ اللّذة والرّغبة الجموحة الخاصّة بالأطفال مرورا إلى مبدأ الواقع أي أن يقبل بالتحديد الذّاتي الضروري للحياة الجماعيّة. فلا تحرّر ذاتيّ دون وضع حدود. بطبيعة الحال فإنّ المجتمع الحالي الذّي لا يعترف سوى بالمراكمة والتوسّع والاستهلاك والفردانيّة والنجوميّة هو أبعد ما يكون عن تحقيق مثل هذا الحلم. أخيرا وكما تصوّر الإنسان المؤسسة التعليميّة في شكلها الحالي والمعهود يمكن له أن يتصوّر أشكالا مختلفة للتعليم والتربية.

-VI- بعض مظاهر أزمة التعليم

لقد مثّلت الحداثة قطيعة جذريّة مع المجتمعات التقليديّة بما حملته من أشكال وتجارب وتصوّرات ومخاييل وأحكام. فمنذ انطلاقتها تنكّرت الحداثة لحقيقة أنّ العالم المراد تحقيقه جماعي وأنّ القطيعة لا تعني تجاهل المصير المشترك لكلّ أفراد الشّعب بل لقد دعت إلى تحقيق المصالح الجماعيّة من خلال الذّات الفرديّة. فالقطيعة مع الماضي لا تعني بالضرورة النّسيان والتنكّر لكلّ ما يجمع بين النّاس. على سبيل المثال اقترن مفهوم الحريّة بقضايا التربية وترويج المعارف والتعليم بصفة عامّة. لا بدّ من توفير نفس الحظوظ للمواطنين للحصول على تعليم جمهوري والقبول بالتفاوت على قاعدة الاستحقاق أي نجاح الأفراد وتميّزهم ولقد كانت من بين نتائج هذا التصوّر ارتباط النخب بالأرستقراطيّة وبطبقة من الأوليغارشيا وتبنّيها لنفس المعايير والتوجّهات. ترسّخت فكرة النخبة لدى الأساتذة الجامعيّين والخبراء وكبار المهندسين الذّين أصبحوا يشعرون بأنّهم فئة مميّزة ومرشّحة للقيام بدور القيادة والتسيير ووضع المخطّطات. من بين مهام المؤسّسة التعليميّة إنتاج النّخب المثقّفة والمتميّزة القادرة على قيادة البلاد وهي الوحيدة المؤهّلة لتقدير أهميّة العمل الجاد والتفاني خلافا للغالبيّة المستهلكة والمتقبّلة.

1- التربية داخل المؤسّسة التعليميّة الكلّ يتّفق أنّ المدرسة قد أخلت بدورها في تربية النشئ وأنّها أصبحت مجالا للعنف والانحراف كما أنّ اهتمام التلميذ بالحصول على المعارف والثقافة قد تراجع بصفة مهولة. تجاه هذه المعاينة تختلف الآراء من داعي إلى تدعيم استقلال التلاميذ إلى مطالب بتطبيق مبادئ الصرامة والسلوك المستقيم وإعادة الاعتبار لمهنة التدريس. عندما ينشأ الطفل يكون بمثابة وحش حيث لا يعرف الحدود. لكنّه كائن قابل للتعلّم : لغة وتصرّفات وسلوكا وتفكيرا وخلقا وتأقلما مع المحيط. تشكّل التربية في مفهومها العام والشامل العامل الأساسي للحفاظ على المجتمعات. فالكهول يرافقون الأطفال ويربّونهم ليندمجوا تدريجيّا في المجتمع ويصبحوا قادرين في يوم ما على الحفاظ على المجتمع وإن اقترن ذلك بإضافات وتصوّرات ومعايير جديدة. كلّ ذلك يتطلّب سلطة الأولياء داخل العائلة وسلطة المدرّس داخل المؤسسة التعليميّة. كلّ الدّراسات النفسيّة الخاصّة بالطفل تتفق على أنّ السلطة تفقد فاعليّتها لدى الطفل إذا اعتمدت العنف والعقاب والنهي المطلق أو إذا اختزلت في مجرّد إقناع عبر نقاش ومنطق أيّا كان. هي كما لاحظت المفكّرة Hannah Arendt ليست سلطة قاهرة لمن له القدرة على القيادة والتوجيه. هي علاقة بين طرفين : الوليّ والطفل أو المدرّس والتلميذ وهي ناتجة عن الدّور الأساسي للتربية بما تمثّله من تكوين وتوجيه وإحساس بالأمن ومساعدة على أداء بعض المهام. السلطة هي إذن في هذه الحال عكس القهر والاستعباد بل هي ضروريّة لمساعدة الطفل للحصول على قدرات جسميّة وذهنيّة مرورا إلى تكوين شخصيّته الخاصّة به والاندماج في المجتمع. هي إذن علاقة وقتيّة. لكن هذه السلطة بمعناها الذّي ذكرناه تعرف تراجعا واهتزازا بفعل استفحال الفردانيّة ونزعة الاستهلاك وتذرر المجتمعات وتمزّق العلاقات الاجتماعيّة. فالأفراد والعائلات والمؤسسات التعليميّة وكلّ المؤسسات تتأثّر بما يحصل في المجتمع. أصبح إنسان هذا العصر يعيش الخوف والرّيبة من المجتمع، من الحاضر والمستقبل وهذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد انزواء الأفراد وتحوّل العائلة إلى شبه ملاذ وملجئ والحال أنّ هذه العائلة تعيش هي الأخرى هزّات. انهارت المعايير التقليديّة ولكن بالمقابل افتقد المجتمع للبوصلة التي تؤسس للمعايير المشتركة. فلا العودة إلى المعايير القديمة قادرة على تجاوز الأزمة ولا انعدام المعايير والخضوع لعقليّة الاستهلاك قادر هو الآخر أن يكوّن ذلك الإسمنت الرّابط للمجتمع حتّى وإن تلحّف بالحداثة. إذا كانت التربية مسؤوليّة الكهول تجاه الأطفال ومسؤوليّة المجتمع تجاه أفراده ومجموعاته كي ينصهروا فيه ويصبحوا عناصر فاعلة ويصنعون مستقبلهم، إذا كانت السلطة مرافقة وتوجيه وتنشئة فكيف لنا أن نحقّق ذلك في ظرف أصبحت فيه الأهداف ضبابيّة؟ كيف يمكن للمؤسسة التعليميّة أن تساهم في هذا العمل وتسهر على تهيئة جيل للقيام بدوره في المجتمع وتكون النافذة التي من خلالها يكتشف الطفل العالم ويقطع مع عالمه الضيّق (علما بأنّ المدرسة لا تعني كلّ المجتمع وليست الإطار الوحيد للتربية)؟ ينفتح الطفل على عالم أوسع من محيطه العائلي ويكتشف أشياء جديدة ويصقل ذاته في تفاعل مع الآخرين، ذكورا وإناثا، أطفالا وشبابا وكهولا، تلاميذ ومدّرسين. يخضع الطفل والتلميذ لقوانين وقواعد سلوك مؤسسة مسبّقا. لكن هذه المؤسسة التّي تحاط بقداسة تفقد سلطتها ما دامت المعايير التّي تربّى عليها الطفل من خلال وسائل الدّعاية والإعلام والتلفزيون ومن خلال المجتمع ذاته تتلخّص في أوهام الاستهلاك بما في ذلك استهلاك المعارف وقد لا تمتّ للواقع في شيء. أي معنى لاحترام سلطة المدرّس والمعلّم والأستاذ في عالم يروّج للسلطة المطلقة والقدرات اللاّمتناهية للشراء والمراكمة؟ ثمّ هاهي المؤسسة التعليميّة ذاتها تصاب بوباء الاستهلاك فلا تعترف سوى بالأعداد والتسابق الذّي قد يؤدّي إلى العداء بين التلاميذ. نعود لمفهوم السلطة لنؤكّد أنّ « خضوع » التلميذ للمدرّس والأستاذ لا يعني الإجبار والإرغام والتسلّط والقهر ولكنّها تستند لمشروعيّة يمكن أن يتقبّلها العقل وحتّى التلاميذ بحيث تتحوّل العلاقة إلى شبه عقد اختياري بين الطرفين يعترف بمقتضاه التلميذ بكفاءة المدرّس في ميدان محدّد ولكن يفترض أيضا من المدرّس سعة صدر وقبول بالتحاور مع التلاميذ وتهيئة الظروف لتقبل هؤلاء للمعارف لا بصفتها جملة من المعطيات وجب حفظها بل بصفتها عناصر أوليّة ومنطلقا للتفكير والتصوّر والإبداع. فالسلطة كما نفهمها وكأداة تربية هي قدرة شخص ما على طلب آخرين بإنجاز عمل دون اللّجوء إلى العنف وهذه القدرة لا تستمدّ من موقع اجتماعي معيّن أو من ميزان قوى ولكنّها تتراجع تدريجيّا مع مرور الزمن وصولا إلى استقلال الأطفال والتلاميذ ليتحوّلوا إلى كهول مسؤولين قادرين على التفكير الحرّ وعلى التحديد الذّاتيّ والتربية الذّاتيّة دون الرّكون إلى أيّ سلطة كانت.

أمام تراجع سلطة الأستاذ والمدرّس والمؤسسة التعليميّة يقترح البعض حلولا وإصلاحات قد تتناقض ولكنّها تتوحّد حول تجنّب القضايا العامّة. البعض يرى أنّ الحلول يجب أن تنبع من داخل المؤسسة التعليميّة التّي لم تعد تربّي الأطفال بل تساهم في هذا الانحلال الأخلاقي الذّي ما فتئنا نلاحظه داخل المؤسسة التعليميّة وخارجها. إذا كانت المعاينة صحيحة وترتكز على حقائق ثابتة فإنّ الحلول تبدو عقيمة لأنّها لا ترتبط بما يحصل خارج المؤسسة التعليميّة كالعائلة والمجتمع. فالأخلاق لا تدرّس بل تكتسب وتعاش وتصاغ وكلّ نظام أخلاقي سواء اعتمد أيديولوجيا أو مفاهيم أخلاقيّة أو مسلمات وأحكام وقوانين سلوك محكوم بالفشل إن عاجلا أم آجلا. فحتى وإن فرضنا نظام سلوك صارم كذلك الذّي عرفته المدارس في الأنظمة السياسيّة الدّكتاتوريّة والفاشيّة فإنّنا لن نضمن النجاح في مهمّتنا لأنّ عالم الدّراسة مفتوح على كلّ العوالم الأخرى. أمّا استعادة سلطة الأستاذة وإعادة الاعتبار للعقاب والعنف الجسدي فلقد أثبتت التجارب عدم جدواها وعقمها وقد تؤدّي إلى عكس الهدف المنشود. أليس من بين أهداف التفكير الأخلاقي في المؤسسة التعليميّة إعداد الظروف الملائمة للتعلّم بحيث يجد التلميذ معنى للبرامج التّي تقدّم له؟

هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية عن كلّ الملاحظات السابقة : عندما نقول لا بد من فرض سلطة وأخلاقيات ونظام سلوك محدّد ومقنّن نتساءل باسم ماذا وبالرجوع لأية معايير ونحن لا نقصد هنا المعايير الأخلاقية التقليدية والموروثة والمعايير الدينية بل المعايير الخاصة بالمؤسسة التعليمية ذاتها. يكمن الجانب الإيجابي الوحيد للتربية الصارمة والتي كانت تعتمد في الماضي بما تحويه من عنف وتخويف وأشكال عقاب في أنها كانت تهدف إلى إعداد أجيال جديدة لتأخذ المشعل من الأجيال التي سبقتها والتي كانت متحمّسة لبناء مجتمع جديد ومتطوّر. أمّا اليوم فقد تراجع هذا الحماس لدى الكهول والأولياء لتعوّضه الفردانية وأصبحت المسائل تدرس بصفة معزولة. أيّ معنى للتعليم إذا فقد المجتمع بأجمله المعنى من وجوده إلاّ ماهو استهلاكي وفرداني؟ أيّ معنى للتعليم إذا كانت أجهزة الإعلام والتلفزة تروّج للسلوك الأناني؟ أيّ معنى لتعليم في مجتمع يعرف أزمات اجتماعيّة وبيئيّة وانخراما للتوازنات وتكالبا على الأشياء؟ يقترح البعض دمج العلاقات الأخلاقيّة في الحياة التربويّة أي من خلال الحثّ على الاحترام المتبادل وعلى التفكير الجماعي والتعاون في تدريس البرامج بدل من تخصيص ساعات للتربية وتدريس القواعد الأخلاقيّة ومطالبة التلميذ بحفظها ليستشهد بها يوم الامتحان. لكن تبني هذا المنهج السّليم يفترض أن لا يكون التعليم مجرّد تلقين وتقبّل وحفظ غير فاعل وغير محفّز للبحث والابتكار بل وأيضا مساءلة للذّات والآخر والمجتمع والمؤسسات والاختيارات. فالتلميذ الذّي هو قبل كلّ شيء مواطن يحقّق ذاته في حركة تفقده ذاته الماضية دون قطع نهائي وتنقله إلى مرحلة جديدة. كذلك هي الأخلاق التّي لا يمكن فهمها إلاّ من خلال حركة فاعلة وذاتيّة وفي تفاعل مع الآخرين. ما يتجاهله دعاة الأخلاق الصارمة هو أنّ شخصيّة التلميذ تصقل من خلال التباعد عن مواقفه الماضية وسلوكه ومع ما يحيط به وصولا إلى نقد ما هو موجود ومتعارف. أمّا التقبّل السّلبي فهو نقيض التربية. لا أحد يربّي غيره، لا أحد يربّي نفسه بنفسه، البشر يربّون أنفسهم بصفة جماعيّة ومن خلال العالم المعاش والتربية كممارسة. هي نشاط لا يقتصر على الذّات الفاعلة بل يتوجّه أيضا إلى الآخرين بصفتهم فاعلين ومسؤولين عن تربيتهم وعن تحرّرهم الذّاتي الذي لا يتناقض مع التحديد الذّاتي. التكوين الأخلاقي هو بالأساس تجربة جماعيّة تفترض مجالا منفتحا وتسمح بلقاء يهيّئ لشروط عادلة للتلاقح بحيث يشعر التلميذ أنّه تحوّل في لحظة ما إلى ذات أخرى من خلال انفتاحه على أفكار ورؤى جديدة تبدو شفّافة للجميع فيمكن أن تتحوّل إلى قاسم مشترك بل يمكن للجميع أن يساهم في وضعها بإرادة حرّة. أخيرا يتجاهل دعاة الصّرامة وفرض الأخلاق أنّ الطفل كائن يفكّر ويحسّ ويتفاعل وينمو ويرون فيه مادّة قابلة للتغيير من الخارج كقطعة من الصلصال. قد ينجحون في صنع جيل من التلاميذ الخنوعين والمتأدلجين والمتعصّبين تماما كما نجح الدّكتاتوريّون والفاشيّون والبيروقراطيّون يسارا ويمينا ومن كلّ فصيل لكن ذلك لن يحصل دون القضاء على القدرة الكامنة لدى الأطفال على التفكير والتصرّف الحرّ والمبادرة والإبداع.

2- الجامـعة : إصلاحات متتالية في معظم بلدان العالم شهد التعليم العالي موجات من الإصلاحات لضمان نجاعة لمؤسساته والاستجابة لما أصبح يعرف بمجتمع المعرفة والمعلومات ولضروريات الاقتصاد الجديد. في الواقع وكما توصّل لذلك عديد المحللين فإنّ الرّهان هو أبعد ما يكون عن نقل وتبليغ المعارف بأحسن وجه ولصالح أوسع فئات الشعب وخدمة للمجتمع والبحوث العلمية بل لقد انحصر بالأساس في تمكين الطلبة من معارف محدودة قابلة للتبادل في سوق الشغل. يتساءل البعض ألا تمثل الإصلاحات التي تقرر في المؤسسات الدولية وتخضع لمقاييس اعتباطية إعلانا عن بداية احتضار المؤسسة الجامعية. في تقرير أعدته مجلة Mauss في عددها الصادر في سنة 2009 حول أزمة الجامعة ومن خلال مختلف البحوث التي قام بها مفكرون مهتمون بقضايا الجامعة أبرز هؤلاء خلطا فادحا بين التعليم العالي والجامعة. هناك تقسيم ما فتئ يتعمّق بين تعليم عالي وجامعة. ففي عديد البلدان الصناعية وحتى في بلدان الجنوب يتطوّر التعليم العالي في المدارس العليا وفي المدارس التحضيرية (كالسنوات التحضيرية للمهندسين) حيث الانتقاء الصارم والتخصص الشديد وذلك لإعداد جيل من العاملين في ميادين محدّدة. أمّا الجامعة فتاريخها يشهد أنها كانت على الدّوام تحتفظ بنسبة من الاستقلاليّة تجاه الدولة وتجاه السوق كما أن الأساتذة الجامعيّين كانوا يحضون باستقلاليّة نسبيّة بحيث مثلت الجامعة مجالا للبحث ولم يكن ينظر لها في السابق على أنها أداة لهدف مهدّد وضيّق. بطبيعة الحال لقد ارتبط ذلك في البلدان المصنّعة بثقافة إنسانوية ديمقراطية. أمّا في بلدان الجنوب المتحصّلة على استقلالها فلقد مثّل ذلك استعادة لتاريخها وشكلا من أشكال فرض الوجود على المستوى الثقافي والعلمي. في العقود الأخيرة تراجع هذا المفهوم للجامعة ولدورها وارتبطت هذه الأخيرة أكثر بمعايير النجاعة المالية ولم يعد الرجوع إلى المعارف الجامعة مقياسا لجديّة البحوث. نتيجة لكل ذلك تعرف الجامعات نزيفا حادّا لصالح الأقسام التحضيريّة بكلّ مستوياتها والمدارس العليا والتعليم القصير في المعاهد العليا. أدّى كلّ ذلك إلى قطيعة بين ثلاث مستويات.

* الجامعة بمفهومها الكلاسيكي

* المدارس العليا : حيث تهيئ بالأخصّ للمهندسين والاختصاصات العلميّة في عديد الميادين وجزء هامّ من الطلبة يهاجرون إمّا لمواصلة تعليمهم في الخارج أو للاستقرار في البلدان الغربية.

* المعاهد العليا ذات التعليم القصير والذّي عادة لا يتجاوز الثلاث سنين وتعترض المتخرّجين من هذه المعاهد صعوبات جمّة في الحصول على شغل رغم أنّ هذه المعاهد قد أسّست بغاية الاستجابة لمقتضيات السّوق.

في مختلف بلدان العالم يتراجع الدّعم المخصّص للجامعة وهذا بتأثير من المؤسسات الدّوليّة التّي تدعو إلى خصخصة التعليم بصفته خدمة تباع وتشترى. أصبحت الجامعات تخضع لتقييم وللمقاييس المعروفة بتقييم شنغاي والتّي تعتمد على عناصر لعلّ أهمّها التخصّص الشّديد ودرجة المعارف المجزّأة وعدد البحوث التّي يقع نشرها بالخصوص باللّغة الانجليزيّة. بخلاصة تقيّم الجامعة كما نقيّم إنتاجيّة مصنع.

تتعمّق الأزمة في بلدان الجنوب إذا علمنا أنّ اقتصادها مرتبط أساسا باقتصاديّات البلدان المصنّعة وأنّ سوقها المحدودة عاجزة في معظم الأحيان عن استيعاب هذه الأفواج من المتخرّجين الذّين يضطرّون إلى القبول بعمل قد لا يتناسب البتّة مع اختصاصاتهم ومع ما حفظوه وتلقّوه في الجامعة.

فمنذ السّبعينات أصبحت الجامعة تسير على خطى الأزمة الاقتصاديّة العالميّة وانعكاساتها على بلدان الجنوب بل لقد أصبحت هذه الأخيرة تكيّفها : بطالة، عمل وقتي ومعرّض لخطر التوقّف، انعدام المساواة، التنافس، الإنتاجيّة، الخصخصة. خلص بعضهم إلى نتيجة مفادها أنّ مجتمعا يعجز عن دمج أصحاب الشهادات (ولنقل أيضا مواطنيه) عليه أن يتغيّر. بطبيعة الحال لكلّ رأيه في الموضوع. فالبنك الدّولي الذّي ما فتئ يعدّ التقارير حول التعليم الجامعي في بلدان الجنوب ويضع التوصيات ينطلق من مفاهيم الحساب الاقتصادي والنجاعة. لكنّ هذا المنطق الاقتصادوي البحت يؤول في الأخير إلى تهميش التعليم العالي والبحث العلمي بوجهيه الأساسي والتطبيقي. إنّها العقلانيّة العلماويّة الاقتصادويّة التّي تتوهّم أنّها بحساباتها يمكن لها أن تقبض على جوهر المسألة.

ما من شكّ أنّ المآل الأخير لهذا التوجّه لن يكون سوى القضاء النهائي على الجامعات وهذا يصبّ طبعا في اتجاه التخلّي التّام عن كلّ مسؤوليّة عموميّة في مجال التربية والتعليم.

3- أزمة الجامعة : فرنسا مثالا بعيدا عن الصّراع بين دعاة الخصخصة والمدافعين عن مكاسب التعليم العمومي يمكن لنا أن نشخّص بدقّة الأبعاد الحقيقيّة لأزمة التعليم الجامعي في مختلف بلدان العالم بما في ذلك بلدان الجنوب والعوائق والصعوبات التي تعترضه. في الحقيقة هذه العوائق ليست وليدة اليوم كما أنّ تشخيصها لم يرتبط بما يُخطّط له اليوم من تحرير للخدمات.

فمنذ عقود ظهرت كتابات ودراسات معمّقة حول هذا الموضوع ولكنّها لم تلق الصدى والوقع الضروريّين. فمهمّة الجامعة والأستاذ الجامعي والباحث الجامعي هي بالأساس إنتاج معارف علميّة وترويجها والتكوين وتقييم النشاط العلمي للطلبة والقيام بالاختبار (expertise). في الحقيقة هذه النشاطات ليست حكرا على الجامعة بل يمكن للعائلات والجمعيّات أن تساهم فيها. لكن الجامعة تمتلك العلوم « الحقيقيّة » والدقيقة. هي تنقسم إلى ميادين وقطاعات ومخابر مجزّأة وجدّ مختصّة حيث تتعمّق المعارف ولكنّها تتضاءل ولنقل مع المفكّر كاستورياديس "كلّما توسّعت المعارف إلاّ وضاقت والعالم يعلم أشياء أكثر عن مواضيع أقلّ". ثمّ ما هي معايير حقيقة ما خصوصا إذا علمنا أنّ التجريد الذي أصبح ملازما لكلّ نشاط علمي وترجمة المعلومات في شكل قوانين رياضيّة يمكن ترقيمها تخضع لنظريّة غودال Godel ومسلّمات Lokatos والتي تقرّ بأنّه لا يمكن الإثبات على صحّة نظريّة ما إلاّ من داخل نظامها ونسقها الخاص . بطبيعة الحال هذا لا ينفي علميّة هذه الحقائق ولكنّه يطرح نسبيّتها (مع أن هذا لا يجرّنا إلى التشكيك في كل شيء باسم نسبية مطلقة تساوي بين كل الأشياء). كيف يمكن ترجمة المعارف المجزّأة وشديدة الاختصاص في العالم المعاش. فاليوم تحوم حول بحوث علميّة مثل تلك المتعلّقة بالاستنساخ والتحوير الجيني والنانوتكنولوجيا صراعات تشقّ المجتمع وحتى أوساط الميدان العلمي ذاته. فسواء تعلّق الأمر بتعليم جامعي عمومي أو خاصّ فلقد تصرّف الباحث الجامعي بصفته سلطة عليا ومرجعا بحيث أدّت استنتاجاته رأسا إلى ممارسات عمليّة. في بعض الأحيان يتحوّل الباحث الجامعي إلى شبه داعية أو رسول يتنبّأ بالمستقبل ويعدّد الوعود. يتحوّل الباحث الجامعي إلى خبير وأعمال الخبرة التي يمارسها لا تخضع لأيّ نقاش أو تدليل. هو الباحث والمقرّر. أما المواطن فهو جاهل بالحقائق العلميّة وما عليه سوى الإذعان والقبول والحال أنّ بعض الاختيارات (الطاقة النوويّة – التحوير الجيني – النانوتكنولوجيا) تحيل رأسا إلى نمط المجتمع والتوجّهات والاختيارات الأساسيّة للمستقبل.

على عكس العلوم النظريّة التي تتطلّب منطقا رياضيّا وتنتج قوانين وعلاقات فإنّ المعارف هي بالأساس معارف عمليّة تستند للتجربة وهذا حتى وإن اعتمدت على قوانين علميّة نظريّة. يتطلّب كلّ ذلك رصد تمويلات وتوجيه الاختيارات والأولويات. لكن من يقرّر هذه الأولويّات؟ من يقرّ بأنّ البحث في مجال الطاقة النووية هو أهمّ من البحث في القضايا البيئيّة على سبيل المثال؟ إذا كان الاختيار حكرا على هؤلاء الجامعيّين والخبراء فإنّه سيكون بالضرورة اعتباطيّا وقد يتعارض مع مصالح المجموعة التي وقع تجاهلها. كيف يمكن تجنّب المخاطر والتوقّي منها؟ لا يمكن ذلك إلاّ بتخليص المعرفة من نزعة الهيمنة سواء هيمنة الجمهور الواسع أو الدّولة أو المختصّين. كما أنّ استقلال البحث العلمي يتعارض مع تقوقع الباحثين ويفترض انفتاحهم على المحيط والمجتمع وضمان حقّ المواطنين في المراقبة. من المفارقات أن يستنجد الجامعيون بمكوّنات المجتمع في صراعهم من أجل الدفاع عن الجامعة ضدّ نزعات الخصخصة لكنّهم تناسوا أنّه على مدى عقود تجاهلوا المجتمع وأصدروا أحكاما ونفّذوا مشاريع دون أيّ استشارة. ثمّ إنّ التقوقع على الميادين المجزّأة وتكلّسها وتراجع نشاطها الإبداعي وعدم انفتاحها على ميادين العلوم الأخرى قد قدّم التعلاّت لدعاة الخصخصة للتخلّي عن هذه القطاعات. فقبل أن تبرز أزمة الجامعة على السطح وتصبح موضوع نقاش جلب له الرّأي العام برزت في البلدان الأوروبيّة وبلدان أمريكا اللاّتينيّة أشكال وأطر للبحث العلمي غير الرّسمي من ذلك الجامعات الشعبيّة التي تعقد في الصيف وجمعيّات تبادل المعلومات العلميّة ومؤسّسات مثل : العلم للمواطنين، شبكات العطاء المجاني للمعارف العمليّة لعموم الناس، شبكات البحوث غير الرّسميّة، المقاهي العلميّة....... لقد تجاهلت الجامعة هذه الأشكال الحديثة. ففي الوقت الذي تسعى فيه المؤسّسات الكبرى إلى احتكار المعلومة شهد الطلب على المعلومات زيادة ملحوظة وذلك بمعزل عن كلّ غاية مادّيّة ونفعيّة. غابت الجامعة عن هذه الحركة علما بأنّ حركة مناقضة لخصخصة المعلومة قد برزت في المجتمع وتجلّت في ما يعرف بالأنظمة الخبيرة الحرّة والمجانيّة والتراخيص الحرّة وكلّها تسعى لترويج المعلومة وتمكين الفئات الواسعة للمجتمع من الحصول على المعلومات وتوظيفها خدمة للمصلحة العامّة.

تماما كما أنّ مشاريع الإصلاح المختلفة لم تلج لبّ المسألة وأصل الدّاء وشخّصت كلّ ذلك في الشكل الذي اتّخذه التعليم العالي العمومي فإنّ الطرف المقابل لازال يتشبّث برؤية عقيمة وبيروقراطيّة تتنكّر للحراك الذي يعرفه المجتمع في مجالات العلوم وتبادل المعلومات والوعي بدور المواطن في الاختيارات والتوجّهات.

بعد أن شهدت فرنسا حركة طلاّبيّة مناهضة لمشاريع الإصلاح المتعاقبة ولما أصبح يُعرف بمشروع « استقلال الجامعات » هاهم رجال العلم والجامعيون والباحثون يتجنّدون ضدّ مشاريع تفكيك مؤسّسات البحث العلمي التي كانت ولازالت فخر الأمّة الفرنسيّة كالمركز الوطني للبحوث العلميّة CNRS والمعهد الوطني للعلوم الطبّيّة INSERM والمعهد الوطني للبحوث الزراعيّة INRA ورفعوا شعار « لننقذ البحث العلمي ». حول هذا الشعار تجمّع عديد الباحثين من مُختلف القطاعات ومن المفارقات أنّ هذه الحركة قد لاقت دعما من قوى وأوساط متباينة بدءا بقوى اليسار التقليدي والاشتراكيّة الدّيمقراطيّة وصولا إلى أقصى اليمين والحركات « السياديّة » (Souverainistes) وكلّها عبّرت عن تخوّفها من خطر اندثار البحث العلمي الفرنسي.

بعد الحرب العالميّة الثانية برزت موازين قوى سياسيّة وعالميّة أدّت إلى تضييق مجال تدخّل الشركات والمؤسّسات الأمريكيّة الكبرى، هذا المجال الذي كسبته خلال الحرب. هكذا ظهرت في عديد البلدان المصنّعة مؤسّسات ومراكز بحث علمي وطنيّة ولم يكن ذلك بمعزل عن الصّراعات التي كانت تشقّ هذه البلدان من أجل دعم نفوذها في العالم. عرفت هذه الفترة تدخّلا مباشرا للدولة لدعم البحوث العلميّة. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة برز مفهوم يدمج البحوث العلميّة في الاستراتيجيا الاقتصاديّة واستراتيجيا الدّفاع. يمكن اعتبار Vannevar Bush رائد هذا التوجّه حيث دفع بالوسط السياسي إلى بعث مؤسّسات بحث عديدة مرتبطة بالدولة من ذلك ما يُعرف بالمؤسّسة العلميّة القوميّة : National Science Fondation. ابتداء من السنوات الخمسين من القرن الماضي بدأت المؤسّسات الدّوليّة تسعى لاستعادة دورها العالمي على حساب مؤسّسات البحث الوطنيّة وذلك باسم النجاعة الاقتصاديّة وبرزت في العالم مؤسّسات علميّة عابرة للأوطان. عرفت السبعينيات والثمانينات بروز الاتّفاق العالمي حول التعريفات الجمركيّة والتجارة GATT التي ستصبح في سنة 1995 المنظّمة العالميّة للتجارة. في سنة 1986 وإثر اجتماع هذه المنظّمة في اليوروغواي وقّع الأعضاء على ما يعرف بـ "الاتّفاق العام حول تجارة الخدمات" (A.G.C.S). يشمل هذا الاتّفاق 160 قطاعا من ذلك السياحة والنقل والبناء والثقافة والماء والطاقة والبريد والتعليم والصحّة والقطاع السمعي البصري والمكتبيّة والأرشيف الوطني والبحث العلمي وقد استثنى هذا الاتّفاق الأمن والقضاء والجيش. بالتوازي شرعت الحكومات في البلدان المصنّعة في التخلّي التدريجي عن مؤسّساتها العلميّة الوطنيّة وذلك تمهيدا لتطبيق مبدأ حرّية تجارة الخدمات الّذي التزمت به ووقّعت عليه. في فرنسا ومنذ السنوات التسعين من القرن الماضي برز اقتراحان يهدفان إلى القضاء على مؤسّسات البحث الوطنيّة : إمّا تحويلها إلى فروع مختصّة في البحث عن مصادر التمويل أو عزلها كلّيّا لصالح فروعها المختصّة وحلّ بعض الفروع « غير المجدية » كفرع البحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة التابع للمركز الوطني للبحوث العلميّة. تراجعت التمويلات منذ سنة 1992 وهذا في ظلّ الحكومتين الاشتراكيّة واليمينيّة على حدّ سواء. جاءت اتّفاقيّة لشبونة لتؤكّد هذا التوجّه. فلقد جاء في مجلّة المركز الوطني للبحوث العلميّة ما يلي : "تهدف استراتيجيا لشبونة التي انطلقت منذ سنة 2000 إلى خلق سوق فعليّة للبحوث في أوروبا بحلول سنة 2010". نذكّر بأنّ المركز الوطني للبحوث العلميّة CNRS هو مؤسّسة متعدّدة الاختصاصات وقد مثّل إحدى الركائز الأساسيّة للسياسة النوويّة الفرنسيّة بل يمكن الإقرار بأنّ البحوث الفيزيائيّة حول الذرات كانت من بين دوافع بعث هذا المركز. فلقد أنشئ هذا المركز بأمر رئاسي في 19 أكتوبر 1939 أي شهر بعد اندلاع الحرب الفرنسيّة الألمانيّة وغزو ألمانيا الفاشية لبولونيا. أوكلت للمركز الوطني للبحوث العلميّة مهمّة المساهمة في مجهود الحرب من خلال مخابره. بعد الهزيمة توقّفت البحوث العسكريّة. بعد سنة 1944 وفي عهد الجنرال ديغول أصبح البحث العلمي أولويّة قوميّة وتضاعفت الميزانيّة المخصّصة له وبرزت لجنة حكوميّة تضمّ كلّ الوزارات وتعتني بالبحث العلمي. من رحم المركز الوطني للبحوث العلميّة نشأ المعهد الوطني للفضاء والجيوفيزياء ومعهد الفيزياء النوويّة وفيزياء الذرة كما انفتح المركز على الجامعات وعلى قطاع الصناعة وقد عقد في سنة 1975 أوّل اتّفاقيّة في هذا الإطار مع مؤسّسة Rhône Poulenc رغم معارضة بعض الباحثين. في سنة 2003 وقع إلغاء 30 في المائة من التمويلات المخصّصة للبحوث باسم النجاعة. علاوة على ذلك لم يقع تحويل الأموال التي وقع إقرارها سنة 2002 وإلى بداية ديسمبر 2003 ظلّ المركز يترقّبها وكذلك هي حال المعهد الوطني للبحوث العلميّة والمعهد الوطني للبحوث الزراعيّة. منذ جويلية 2007 تبنّى مجلس إدارة المركز الوطني للبحوث العلميّة بسرعة فائقة مخطّطا استراتيجيّا يقضي بالتخلّي عن الأقسام العلميّة والاستعاضة عنها بمعاهد تتكفّل بضبط مشاريع البحث وإيجاد مصادر التمويل. لقد اقترنت هذه الإجراءات بقوانين أفريل 2006 وأوت 2007 التي برمجت لعلاقة وثيقة بين القطاع المصرفي والمالي والصناعي من جهة وبين الجامعات. سيشهد المركز الوطني للبحوث العلميّة إلغاء 380 موطن شغل يشمل الباحثين والمهندسين والتقنيين. صرّحت الوزيرة Valerie Pecresse إلى إحدى القنوات التلفزيّة : "لسنا بحاجة اليوم لمزيد من الباحثين". في أثناء كلّ ذلك برزت الاحتجاجات ضدّ مشروع إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي وذلك تحت شعار : « لننقذ البحث ولننقذ الجامعة ». فالدعوة إلى استقلاليّة الجامعات تعني بالنسبة للمحتجّين إخضاعها للأوساط المالية والشركات متعدّدة الجنسيّات. أمّا مشاريع الإصلاح التي تخصّ مؤسّسات البحث العلمي فهي ترمي إلى تقسيم المعهد الوطني للبحوث الطبّيّة INSERM إلى 8 معاهد والمركز الوطني للبحوث العلميّة CNRS إلى 7 مؤسّسات وإخضاع مؤسّسات البحث إجمالا إلى ما أصبح يعرف بسوق البحث وهذا يدخل حسب أصحاب المشروع ضمن « تحديث وعصرنة » البحث العلمي. في 26 مارس 2009 تجمّع موظّفو المركز الوطني للبحوث العلميّة ليمنعوا انعقاد اجتماع الهيئة الإداريّة التي كانت ستبحث العقود المرتبطة بأهداف المؤسّسة. جاء في كُتَيّب صادر عن هذه الهيئة : "تطمح استراتيجيا لشبونة التي أقرّها الاتّحاد الأوروبي في سنة 2000 إلى إنتاج المعرفة وتحويل هذا الإنتاج إلى محرّك للاقتصاد الأوروبي بخلق مجال أوروبي للبحث... إنّه من الأهمّيّة بمكان فتح المجال للمساهمات البشريّة والمادّيّة والماليّة... والتعامل مع شبكات قويّة لبناء شراكات من مختلف البلدان والآفاق...". في 2 أفريل 2009 وبينما شهدت فرنسا تظاهرات عديدة وفي كلّ أرجاء البلاد تعبيرا عن رفض التخلّي عن الخدمات العموميّة والتعليم والبحث تواصلت عمليّة تفكيك المؤسّسات العموميّة للبحث وقطعت شوطا هامّا. فعلى غرار المركز الوطني للبحوث العلميّة والمعهد الوطني للبحوث الطبّيّة عرف المعهد الوطني للبحوث الزراعيّة يوما صاخبا بالتحرّكات وذلك بمناسبة اجتماع مجلس إدارة هذا المعهد والذي كان موضوعه إقامة "كنسرتيوم وطني للزراعة والتغذية وصحّة الحيوان والبيئة" فاتحا بذلك المجال لخصخصة البحوث الزراعيّة.

يرى المعارضون لمشاريع إصلاح البحث العلمي أنّ هذا الأخير لا يمكن أن يحافظ على الموضوعيّة إذا كانت المؤسّسة المشرفة هي الخصم والحكم في آن واحد وذلك في ميادين عديدة كالصحّة والبيئة والطاقة والزراعة. سيحدّد المموّل الاختيارات والبرامج ويؤثّر على نتائجها وذلك بما يتلاءم مع مصالحه. في 13 أفريل 2009 نشرت جريدة لومند نتائج عمليّة سبر للآراء تبيّن من خلالها أنّ غالبيّة الفرنسيّين يساندون حركة الاحتجاج التي قام بها الباحثون وأساتذة التعليم العالي والطلبة. في الحقيقة لقد تضافرت عديد العوامل لتؤدّي إلى مراجعة سياسات التعليم والبحث العلمي. فمن ناحية هناك توجّه نحو عولمة البحث العلمي وخصخصة التعليم في جميع مراحله ومن ناحية أخرى هناك رغبة جامحة للأوساط المالية والاقتصاديّة العالميّة في أقلمة البحوث العلميّة والأكاديميّة مع متطلّبات التغيير التي يعرفها القطاع الخاصّ والمؤسّسات بصفة عامّة. لبلوغ هذا الهدف طالب المؤسّسات بتغيير أشكال وطرق التعامل والتعاون مع مؤسّسات البحث بتشريك الأولى في تحديد أولويّات البحث والتمويل وطرق استغلال نتائج البحوث. أشكال التعاون عديدة منها السياسة التعاقديّة لمدّة محدّدة والتي تجبر المخابر على التمويل الذاتي لنشاطاتها وحماية المعارف وخصخصتها والتخلّي عن التشريعات القديمة بما يسمح بحركة وانتقال الباحثين من موقع لآخر. هذا هو النموذج المهيمن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة حيث ينتقل الباحثون من مخبر إلى آخر كل 4 سنوات. أوّل من دافع عن هذا النموذج وحاول فرضه هو الوزير الاشتراكي Claude Allègre. في سنة 1980 سنت الولايات المتّحدة الأمريكيّة قانونا يسمح بحماية البحث العلمي في القطاع العمومي من خلال تسجيل براءات الاختراع وبالتالي فتح المجال لانتقالها للقطاع الخاصّ. قبل 50 سنة من صدور هذا القانون كان القطاع العسكري المحرّك الرّئيسي للابتكار التكنولوجي وقد لعبت السلطة الفيدراليّة دورا محوريّا في تطوير البحوث الأكاديميّة وقد جاء القانون ليفتح عهدا جديدا ويرسي أرضيّة قانونيّة لانتقال التكنولوجيا إلى السوق. عرفت الجامعات موجة من تسجيل البراءات وتحوّلت المخابر العموميّة إلى مؤسّسات ومصانع وقد ارتبط هذا التوجّه بتطوّر البيوتكنولوجيا وبعديد البحوث الأخرى في ميدان الطب والكيمياء والأنظمة الخبيرة والإعلاميّة والهندسة. أصبح العلم بضاعة وظهر مصطلح « اقتصاد المعرفة » وتخلّت الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن مفهوم العلم كقطاع عمومي وبالتالي عن ضرورة تدخّل الدولة في تمويل وتوجيه البحث العلمي ورافق ذلك حركة عولمة البحث تنظيما واستراتيجيا من ذلك التركيز على العقود والبحوث ذات الجدوى المباشرة على حساب البحوث الإستراتيجية. لكن هذا التوجّه يتناقض مع حقيقة أنّ معظم التطبيقات الهامّة للعلوم كان مصدرها بحوث أساسيّة بعيدة كلّ البعد عن التطبيقات المباشرة. ها هي إذن فرنسا تحذو حذو الولايات المتحدة الأمريكية وتستعدّ لخصخصة البحوث العلمية. يرى أصحاب المشاريع « الإصلاحيّة » أنّ مؤسّسات البحث العلمي هي من بقايا عصر التحرير وهي محافظة وغير قابلة للإصلاح (تقرير إدارة المراقبة المالية والإداريّة الفرنسيّة لسنة 2001). كما أنّ طريقة التسيير لا تتناسب مع العصر إذ أنّ هذه المؤسّسات تشغّل موظّفين وباحثين مستقلّين عن قطاع التعليم وبصفة دائمة. كما يعاب عليها مركزيّة القرار وانحصار علاقاتها مع بعض الجهات والجامعات والصناعات وانعزالها عن المجتمع. رغم أنّ المثال الأمريكي يظلّ المرجع لأصحاب القرار والمدافعين عن مشاريع الإصلاح إلاّ أنّهم لا يتجرّؤون على الإعلان عن ذلك صراحة. قبل أيّام من الانتخابات الرّئاسيّة الأمريكيّة تعرّضت الوزيرة Pécresse إلى مثال ألمانيا والحال أنّ هذا البلد يعرف تعاظم أعداد الباحثين العاطلين عن العمل. يتناسى دعاة خصخصة البحث العلمي والمدافعين عن النموذج الأمريكي أنّ تدخّل القطاع الخاصّ في مجال البحث لم يقض على تدخّل الدولة. فاليوم يطالب رجال الأعمال الخواصّ الأمريكيون بدعم تدخّل الدّولة في ميدان البحث العلمي لأنّهم يريدون أن ينتفعوا من نتائجه بأقلّ التكاليف. فالمؤسّسات الخاصّة لا تعتني سوى بالبحوث ذات الفائدة المباشرة والتي تعنيها في نشاطها وتنعكس بصفة مباشرة وملموسة على أرباحها. ثمّ هاهو باراك أوباما يقرّر مضاعفة ميزانيّة الدّولة للبحث العلمي وقد لاقى هذا الاختيار مباركة رجال الأعمال. لا أحد يشكّ في ريادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة للبحث العلمي في العالم لكن مساهمتها تعرف تراجعا مقارنة بآسيا. هذا ما توصّلت له مؤسّسة Thomson Reuters في تقرير لها صدر في جانفي 2009 وقد لخّص 12 سنة من المعلومات التي اعتمدت قاعدة بيانات مؤسّسة National Science Indicate والمؤسّسة المذكورة هي المصدر الرّئيسي للمعلومات المخصّصة للمؤسّسات والمهنيّين. فهناك تراجع للاهتمام بالبحث العلمي وتقلّص عدد الباحثين الأجانب وتراجع الاستثمارات المخصّصة للبحث العلمي والتعليم الجامعي وتراجع الصادرات التقنية التي كانت في حدود 29 بالمائة سنة 1970 وأصبحت 12 بالمائة في الوقت الذي عرفت فيه الصين واليابان زيادة في إنتاجهما وصادراتهما التكنولوجيّة. فهذا « بيل غيتس » يطلق صيحة فزع : "عندما أقارن مستوى الطلاّب في الثانوية العامّة في أمريكا بالطلاّب الذين ألتقيهم في أسفاري ينتابني الرّعب والخوف على المستوى التعليمي لهذا البلد".

عبّر السيّد Albert Fert المدير العلمي للوحدة المشتركة بين المركز الوطني للبحوث العلميّة ومؤسّسة Thales والمتحصّل على جائزة نوبل عن انشغاله من مخاطر تبنّي "النموذج الأمريكي". من المعلوم أنّ مجموعة Thales مختصّة في الإلكترونيك الدقيقة في ميدان الفضاء والميدان العسكري وتكنولوجيا المعلومات وتمتلك الدّولة 27 بالمائة من حصصها وقد حُظيت بحماية خاصّة. يقول السيّد Albert Fert : "ليس هناك وجه شبه مع مؤسّسات البحث الأمريكيّة التي تتمتّع بقدرات مالية فائقة. فالنموذج الأمريكي مخصّص للأغنياء حيث تبلغ نفقات التعليم للفرد الواحد بجامعة هارفارد 50 ألف دولار للسنة وهذا يفسّر حالات الانهيار العصبي والانتحار التي تشهدها المركّبات الجامعيّة بما في ذلك جامعة هارفارد... من الضروري الحفاظ على أسس التنظيم الجمهوري للبحث العلمي والتعليم الجامعي... وكلّ ذلك يضمن استقلاليّة الباحثين...". يتغافل كلّ الباحثين الذين يرفعون شعار "لننقذ البحث العلمي« و »لنحافظ على استقلاليّة الباحثين" أنّ مؤسّسة Thales على سبيل المثال رائدة في ميدان « البيومترية » وقد ضغطت على الدولة الفرنسيّة لتبنّي بطاقة التعريف الإلكترونيّة وهي التي صنعت كاميرات المراقبة في محطّات القطارات وهي تنتج مختلف أنواع الأسلحة بما في ذلك الأسلحة النانوية والأقراص القادرة على مراقبة تحرّكات الأشخاص. كما أنّ المركز الوطني للبحوث العلميّة لا يخضع لأيّ قانون أخلاقي Ethique ولقاعدة تقييم شفاف ولا اسمي كما أنّه يعتمد أسلوب المقرّر الذي لا يخلو من اعتباطيّة. أخيرا توجد مراكز ضغط وتأثير من بعض الأساتذة الجامعيّين أو من قوى فاعلة ساهمت في توجيه التمويلات إلى ميادين دون أخرى حتى وإن لم تكن تمثّل أولويّة. فإذا كانت خصحصة قطاع البحث العلمي تنذر بإخضاعه لمصالح الدوائر المالية والاقتصاديّة العالميّة والحال أنّ العالم يعيش أزمة مالية خانقة فإنّ موقف المدافعين عن القطاع العمومي وعن المكاسب لا يصمد أمام حقيقة البحث العلمي العمومي. فهذا القطاع لا يخضع للمراقبة تنظيما وصياغة وتقييما وفي كلّ مراحل البحث وهذا ناتج عن غياب شبكة من العلاقات بين المواطنين من ناحية والباحثين.

للتاريخ نقول أنّ انبثاق المركز الوطني للبحوث العلميّة CNRS كان نتاجا لتحالف ضمني بين الديغوليين والحزب الشيوعي الفرنسي (ذي التوجّه القومي) وقد رأيا فيه الأداة الفعّالة لاسترجاع فرنسا لمكانتها ضمن مجموعة البلدان المصنّعة وقد كان للقطاع العسكري دورا محوريّا في دعم نشاطاته وذلك في صراع مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد السوفييتي السابق. أما اليوم وفي عصر العولمة وانهيار مفاهيم « الدولة-الأمة » وهيمنة رأس المال المالي الدولي والذي لا يعترف بالوطنية والجنسية فإن الدفاع عن نموذج ما بعد الحرب العالمية الثانية يعدّ من قبيل البكاء على الأطلال. هذا لا يعني أن النموذج الحالي للبحث العلمي هو الأفضل ولكن المسألة تتطلب صياغة جديدة وتصورا مستحدثا يقطع مع البيروقراطية من ناحية ومع المصالح الضيقة للمجموعات المالية خصوصا وأن هذه الأخيرة قد أدخلت العالم في دوامة اقتصادية لا يمكن التكهن بمدى خطورتها. فلا يمكن الدّفاع عن النظام العمومي للبحث العلمي إذا لم يقترن ذلك بمراجعة جوهريّة لمحتوى البحث ولعلاقة المجتمع بالعلوم بحيث يستجيب البحث لحاجيات المواطن الفعليّة وينفتح على الحياة الاجتماعيّة ويخضع للمراقبة. فالبحث العمومي لا يعني بالضرورة انفتاحا على العموم. لقد تفطّن أعضاء حركة "لننقذ البحث" للثغرات الديمقراطيّة لبرنامجهم حين شخّصوا "استقلاليّة البحث العلمي في حوار داخل العائلة العلميّة" وخصوصا عندما لاحظوا عدم تضامن الرّأي العام مع مطالبهم فحوّلوا برنامجهم إلى "عريضة منفتحة على المواطنين« وأصبح الشعار : »لنفتح أبواب البحث العلمي".

أيّ بحث يجب إنقاذه وأيّة علوم؟ أعلوم نقية ومحايدة !؟ أعلوم نوويّة وبيوتكنولوجيّة ونانوتكنولوجيا لم تخضع لتقييم أوّلي لمخاطرها؟ أم تقنيات عسكريّة وتقنيات مراقبة؟ لقد اقترن المرور من المجتمع الصناعي إلى المجتمع الإلكتروني، مجتمع الحركة والبضاعة والمعلومة بالانتقال من العمل كقيمة إلى القيمة المبهمة والمجرّدة (بما في ذلك حركة المال) وهذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد الأزمة المالية العالميّة التي تنعكس سلبا على مسيرة البحث العلمي. إنّ التحدّي هو أبعد ما يكون عن صراع بين خاصّ وعام، بين مدافع عن القديم ومجدّد، بين محافظ وتقدّمي إلى سبر كنه العلوم والتقنيات وهذه قضيّة أخرى.

4- الإطارات العلميّة العربيّة : المهندس في بلدان المغرب العربي مثالا على مدى تاريخ المغرب العربي المعاصر كان للمهندس دور اجتماعيّ محوريّ إذ مثّل مركز الثقل لاستراتيجيات التنمية سواء منها العمرانيّة أو الصناعيّة أو الزراعيّة. أيّ صورة للمهندس في مرحلة الاستعمار وما هو موقعه في المجتمعات المغاربيّة المعاصرة خصوصا في العقود الأخيرة التي تواجه فيها بلدان المغرب العربي الكبير تحدّيات الانفتاح وتحرير القطاعات الاقتصاديّة؟ أوّل صورة عرفتها بلدان المغرب العربي الكبير هي صورة المهندس القادم من البلد المستعمر ليكتشف ويبني عالما متحضّرا على غرار ما تعرفه البلاد المصنّعة. ترسّخت هذه الصورة في الأذهان وفرضت على المجتمع خصوصا وأنّ القوى الاستعماريّة قد حالت دون تكوين مهندسين مغاربيّين. بعد الاستقلال تغيّرت الرّهانات والتحدّيات. كان على هذه البلدان أن تسعى إلى استبدال المهندسين الفرنسيّين بإطارات تقنيّة وطنيّة للإشراف على عمليّة التنمية الصناعيّة الموجّهة وفقا لتخطيط الدّولة التي ستصبح بسرعة فائقة أوّل مشغّل للمهندسين سواء تلقوا تعليمهم في الخارج أو في بلد من بلدان المغرب. أمّا اليوم فلقد تغيّرت المعطيات. فلقد دخلت بلدان المغرب العربي الكبير مرحلة من تحرير الاقتصاد وما ينتج عن ذلك من اشتداد التزاحم. كلّ ذلك يطرح قضيّة دور المهندس في المؤسّسة ومدى قدرته على إدارة التكنولوجيا الجديدة وعلى الابتكار التكنولوجي. حتى وإن لم تتخلّ الدّولة نهائيّا عن دور المشغّل للمهندسين إلاّ أنّها لم تعد الضامن لتشغيل الإطارات التقنية التي وقع تكوينها حديثا. كما أنّ دور الدولة في دفع التنمية قد تراجع. أدّى كلّ ذلك إلى إعادة هيكلة أنظمة التكوين وتقسيم جديد للقطاعات المهنيّة وبروز استراتيجيّات جديدة لدمج المهندسين في الحياة المهنيّة كما أنّ صورة المهندس التي هيمنت على مدى عقود قد عرفت هزّات وتحوّلات عميقة. في الجزء الأوّل من القرن 19 برزت الحاجة للتقنيّين والمهندسين خصوصا في الميدان العسكري وكلّ ذلك يهدف إلى مقاومة الضغوط الاستعمارية والتصدّي لها. المهندس العسكري هو ذلك التقني الضروري الذي يقدّم حلولا عسكريّة ناجعة لمقاومة القوى الأوروبيّة. في هذا الإطار وقع إنشاء المدرسة الحربيّة بباردو في سنة 1840 (مكتب المهندسين) والتي عرفت أيضا بمعهد البوليتكنيك. تركّزت مناهج التعليم في هذا المعهد على المواد العلميّة والرياضيّة والتكوين العسكري. لاقت هذه العصرنة التي لم تتجاوز المجال العسكري الفشل الذريع. فبخلاف أوروبا لم يرافق بروز مدارس المهندسين نموّا صناعيّا. ثمّ جاء الاستعمار ليحول دون تصنيع البلاد المستعمرة. من بين بنود معاهدة الحماية الاستعماريّة التزام البلد المستعمر بعدم مزاحمة الصناعات الفرنسيّة وبالاقتصار على توفير المواد الزراعيّة لصالح البلد المهيمن. إذا استثنينا بعض الحالات النادرة يمكن الجزم أنّه لم يشمل إطار المهندسين على المهندسين والتقنيين المغاربة. فعلى سبيل المثال وفي بداية القرن العشرين قامت القوى الاستعماريّة بأشغال هامّة في تونس ولم يمثّل العنصر التونسي سوى 5% من العاملين القارّين والوقتيّين على حدّ سواء. في سنة 1945 عبّر الفرع التونسي لاتّحاد المهندسين والتقنيين عن انشغاله لانحصار عدد المهندسين والتقنيين التونسيّين. أمّا في الجزائر فلقد منع الاستعمار المواطنين الجزائريّين من تلقّي تعليم تقني. فالعدد القليل من المؤسّسات التعليميّة يقدّم تكوينا تقنيا لغالبية من الأوروبيّين. في الفترة 1949-1950 كان عدد الطلبة الجزائريّين 77 من بين 453 طالبا مرسّما في مؤسّسات التعليم التقني الزراعي. أمّا بالنسبة للتعليم التقني المهني فلقد كان عدد الجزائريّين 271 من بين 1702. تجسّد الصورة المهيمنة للمهندس في المهندس الفرنسي. في فرنسا أوكل للمهندس دور هام في تطوير الإنتاجيّة والحدّ من تكاليف الإنتاج والوسيط في الصراعات داخل المؤسّسة. في سنة 1895 أنشئت المؤسّسة الفرنسيّة للمهندسين المعمّرين وفي سنة 1898 أنشئت مدرسة الأشغال العامّة وقد أفصحت هذه المؤسّسة التعليميّة منذ البداية عن توجّهها الاستعماري خصوصا ابتداء من سنة 1912 مع بداية الحماية الفرنسيّة للمغرب الأقصى. أمّا المؤسّسة التعليميّة الأولى فلقد كانت تعتني بالتوسّع العمراني وبدور المهندس في البلدان المستعمرة مع التأكيد على السكك الحديديّة كوسيلة أولى للتهيئة الترابيّة للمستعمرات. لقد روّجت هاتان المؤسّستان التعليميّتان للصورة النموذجيّة للمهندس الاستعماري بصفته أداة للتغيير التي تقودها عزيمة لا تكلّ. فهو المعماري والمحافظ على السلامة والميكانيكي والقائد وزعيم المجموعات البشريّة التي توكل لها مهمّة التنفيذ وهو الوحيد القادر على النقد والتصوّر والتأقلم مع جميع الأوضاع والحالات. من بين القطاعات الهامّة التي يقوم فيها المهندس بالدور المحوري نذكر الأشغال العامّة والبريد والاتّصالات. الأغلبيّة الساحقة من المهندسين هم من أصل فرنسي إذا استثنينا بعض الأسماء مثل المهندس التونسي محمد علي العنابي والمهندس التونسي محمد الميلي. ترتفع نسبة المهندسين أصيلي البلد المستعمر في مدارس الهندسة الزراعيّة. لقد بعث الاستعمار مدارس زراعيّة لتكوين المعمّرين وتهيئتهم من الناحية النفسية للبقاء و« التعمير ». لكن ذلك لم يمنع من تمكّن أبناء بعض الملاّكين العقاريّين الكبار من مزاولة تعليم زراعي إلى جانب الفرنسيّين. فلقد مثّلت الزراعة القطاع الرئيسي الذي عمد فيه المهندس الاستعماري إلى فرض نظرته للتنمية. فلقد طبّق المهندسون الفرنسيّون التقنيات الزراعيّة المعتمدة في فرنسا وأقلموها مع أوضاع المستعمرات. بخلاصة عندما تحصّلت بلدان المغرب العربي على استقلالها كانت تفتقد للمهارات والكفاءات التقنية وبالذات للمهندسين. ابتداء من السنوات الستين وتحت تأثير الإيديولوجيا التنمويّة المهيمنة في الغرب شرعت بلدان المغرب العربي في تكوين إطارات وكفاءات تقنية قادرة على تخطيط وإدارة التنمية الاقتصاديّة والإشراف على المؤسّسات المؤَمَّمة. لقد وقع تشجيع الطلبة على التوجّه إلى فروع التعليم التقنية والعلميّة كما وقع تشجيع أنجب التلاميذ للتوجّه إلى دراسة الهندسة. تعدّدت مؤسّسات التكوين وزادت أعداد الطلبة من سنة لأخرى ويمكن تشبيه هذا التوجّه بالاستراتيجيا الستالينية للتنمية الاقتصاديّة حيث قامت الدولة بدور المقاول ورجل الأعمال إضافة إلى دورها المحوري في التعليم. في كلّ البلدان العربيّة أصبحت الهندسة مهنة مقدّسة وأولويّة وطنيّة حتى في المغرب الأقصى الذي كان نظامه الاقتصادي أكثر ليبيراليّة مقارنة ببقيّة بلدان المغرب العربي. فلقد مثّل القطاع العمومي عصب الاقتصاد في السنوات الستين والسبعين من القرن الماضي. أغلب المهندسين كانوا يعملون في القطاع الحكومي وشبه الحكومي. ابتداء من السنوات الثمانين دخلت اقتصاديات البلدان العربيّة مرحلة جديدة. فلقد فشل نموذج التنمية كما تراجعت مداخيل الدولة من مبيعات المواد الأوّلية والمنجميّة والنفط وساعد ذلك على تخلّي الدّولة عن دورها الذي التزمت به في العقود الأولى للاستقلال. في الأثناء انهارت صورة المهندس الموظّف وتراجع دور المهندس في المجتمع. في معظم القطاعات العموميّة تحوّل المهندس إلى بيروقراطي وتراجع دوره التقني لصالح مهام إداريّة وبالتوازي تراجعت قدرته الشرائيّة وتدنّى موقعه في السلم الاجتماعي. لكنّ ذلك لم يشمل جزءا هامّا من المهندسين الذين تلقّوا تعليمهم في المدارس العليا الفرنسيّة والغربيّة بصفة عامّة كمعاهد البوليتكنيك. فبينما ارتقى الجيل الأوّل من هؤلاء إلى مواقع المسؤوليّة العليا في المؤسّسات العموميّة اندفع جيل السبعينيات إلى بعث مكاتب دراسات خاصّة بارتباط بالمؤسّسات الصناعيّة الأوروبيّة الكبرى وتوجّه جزء هام من جيل الثمانينات فيما بعد إلى الاستقرار في البلدان الأوروبيّة أو في بلدان أخرى كبلدان الخليج وحتّى وإن قرّروا الرّجوع إلى البلد فإنّهم التحقوا بفروع للمؤسّسة الأمّ المنتصبة في بلدهم. في بلدان المغرب العربي الكبير يمكن تقسيم القطاع الخاصّ إلى نوعين من المؤسّسات :

* مؤسّسات خاصّة كبرى توفّر عددا محدودا من مواطن الشغل للمهندسين.

* عدد هام من المؤسّسات الصغرى والوسطى بعضها شبه حرفية ونشطة لكنّها تعتمد يدا عاملة يقع إعدادها في مواقع العمل وذلك بما يتلاءم مع حاجياتها مع الاستنجاد في ظروف مؤقّتة ومحدودة بخبرة مكاتب الدراسات وخدمات بعض المهندسين. لقد اقترن تراجع الدولة مع فرض سياسات إعادة الهيكلة وما أصبح يعرف بالتأهيل وذلك بدعم من المؤسّسات المالية الدوليّة وقد انطلقت هذه العمليّة في سنة 1983 بالمغرب الأقصى وفي سنة 1986 بتونس في سنة 1995 بالجزائر. في منتصف التسعينات وقّعت تونس والمغرب معاهدات تحرير التجارة مع السوق الأوروبيّة المشتركة. أدّى ذلك إلى إعادة تشكيل سوق الشغل وإعادة هيكلة وتقسيم للقطاعات المهنيّة. تراجعت أعداد المهندسين المشتغلين في القطاع العمومي مقارنة مع القطاع الخاصّ بينما تشكّلت هرمية في أوساط المهندسين المشتغلين بالقطاع الخاصّ وتنوّعت فروع النشاط الهندسي ممّا أدّى إلى تراجع اللّحمة المهنيّة للمهندسين. وضعيّة المهندسين الزراعيّبن المغاربة شديدة الدّلالة. فالجيل الأوّل من المهندسين الزراعيّين أصبحوا يشغلون مناصب إداريّة في المؤسّسات العموميّة بينما ضاقت سوق الشغل بالنسبة للجيل الجديد من المهندسين الزراعيّين وارتفعت نسبة البطالة في أوساطهم. أمّا في تونس فيلاحظ المختصّون تجنّب القطاع الخاصّ تشغيل المهندسين واليد العاملة المختصّة وذلك للحدّ من كلفة الإنتاج.

تخصّصت بلدان المغرب العربي الكبير في قطاعات محدّدة من ذلك النسيج والزراعة والسياحة والإلكترونيك والميكانيك ولا يمكن لهذه البلدان أن تزاحم مثيلاتها في السوق الدوليّة سوى بالحدّ من كلفة الإنتاج. لكن في الأثناء ظهرت قوى اقتصاديّة جديدة قادرة على مزاحمة المنتجات المغاربيّة كالصين وبلدان جنوب شرقي آسيا. في المغرب الأقصى الذي عرف انتعاشة لقطاع الاقتصاد المصرفي تراجع دور المهندس مقارنة مع مهن أخرى مثل الإطارات العامّة في قطاع التجارة والمؤسّسات المصرفيّة. فاليوم أغلب المهندسين في هذا البلد من جذور متواضعة ومتوسّطة بينما يتوجّه أبناء العائلات الميسورة إلى اختصاصات التجارة والمال.

لا يمكن فصل أزمة المهندس في المغرب العربي الكبير عن محتوى برامج التعليم. فعدد هام من المهندسين زاول تعليمه في البلدان الأجنبيّة وبالأخصّ أوروبا. أسّست عديد المعاهد المختصّة في تكوين الهندسة بجميع فروعها واختصاصاتها بينما لازالت القلّة من التلاميذ « المتفوّقين » يزاولون تعليمهم العالي بأوروبا وجزء هام منهم يختار البقاء هناك. من ناحية أخرى برزت معاهد هندسة خاصّة ولم تقدر إلى حدّ اليوم مزاحمة المعاهد العموميّة والارتقاء إلى مستواها. لازال المهندسون في المغرب الأقصى الذين زاولوا أو يزاولون تعليمهم العالي في المدارس العليا الأوروبيون يشكّلون نخبة المجتمع السياسيّة والاقتصاديّة. تواجه المؤسّسات الاقتصاديّة في بلدان المغرب العربي الكبير تحدّيات جمّة لعلّ أهمّها خضوع منتجاتها للمواصفات الدوليّة وهذا لا يتأتّى سوى بالاستجابة لـ« حاجيات » السوق التي لم تعد فقط وطنيّة بل وبالأخصّ أجنبيّة ودوليّة. معظم الدراسات تشير إلى أنّ مساهمة المهندس في البحث والابتكار لازالت محدودة جدّا وهذا راجع لعدم التطابق بين الشهادة المتحصّل عليها (محتوى التعليم) والدور الموكول له في ميدان الإنتاج وموقعه في إدارة عمليّة الإنتاج وعلاقته بالقطاعات الاقتصاديّة الأخرى والمهن الأخرى. من المهندس الموظّف الذي كوّن النخبة التي أدارت مخطّطات التنمية في بداية الاستقلال إلى المهندس المعاصر الذي يبحث عن الاندماج في نسيج اقتصادي منفتح على الخارج، هذه هي مسيرة المهندس في المغرب العربي الكبير ولعلّها صورة صادقة لوضعيّة جلّ المهندسين العرب وحتى المهندسين في بلدان الجنوب قاطبة. لا يمكن فصل المعضلات والصعوبات التي يتعرّض لها المهندس العربي دون ربطها بالوضع الاقتصادي العامّ وبالتحوّلات التي يعرفها الاقتصاد العالمي والتي حتّمت على كلّ بلدان الجنوب الانصهار في نموذج عالمي سطّرته القوى الاقتصاديّة العالميّة الفاعلة.

5- التعليم في الولايات المتحدّة الأمريكيّة منذ سنة 1958 نبّهت المفكرة حنّة أرندت من عجز المؤسسة التعليميّة عن توفير تربية ناجعة. فتحت غطاء توفير نفس الحظوظ لكلّ أفراد الشّعب تأسّست هذه الأخيرة على نمط المؤسّسات الصناعيّة فوضعت مقاييس وحدّدت أهدافا تقودها في ذلك عقلانيّة حسابيّة. سواء تعلّق الأمر بالمحافظين أو بالديمقراطيين فلقد اتّفق الجميع على أنّ الخصخصة تظلّ الحلّ الوحيد. على المدرسة العموميّة أن تساهم في الرفع إنتاجيّة المؤسّسات بتكوينها ليد عاملة مختصة وفي الحدّ من التفاوت النّاتج عن توزيع المنتجات. لكنّ الواقع يؤكّد أنّ هذه الأهداف التّي تبدو إنسانيّة لم تتحقّق بل العكس هو الذّي نلاحظه من خلال تقييم أوّلي للمؤسّسة التعليميّة.

تشير الإحصائيّات الرّسميّة إلى أنّ نسبة البطالة لدى المتخرّجين الجدد والذّين غادروا المدرسة قبل الحصول على شهادات تبلغ 55 بالمائة (إحصائيّات 2009) بينما بلغت 28 بالمائة بالنسبة لأصحاب الشهادات. ما يقارب تلميذ من ثلاثة أي مليون و200 ألف تلميذ في السّنة يغادرون المدارس الإعداديّة أو المعاهد قبل حصولهم على الشّهادات وترتفع هذه النسبة في الأحياء الفقيرة حيث يقطن الأمريكيّون اللاّتينيّون والسّود لتبلغ 60 بالمائة. رفع المحافظون بزعامة بوش شعار لنستثمر « الرّأسمال البشري » واعتبروا أنّ التعليم بمثابة استثمار صناعي أو مصرفي ونادوا بتنظيم المؤسّسة التعليميّة وفق النموذج التايلوري المعتمد في المصانع. هكذا أقرّت السّلطة أشكالا من العقاب على المؤسّسات التعليميّة التّي لا تحرز على النّتائج المرجوّة وذلك في شكل رفع الدّعم المالي أو طرد المديرين وصولا إلى غلق هذه المؤسّسات. تزامن كلّ ذلك مع بروز المؤسّسات التعليميّة الخاصّة حيث يزاول ابن من اثنين لأعضاء البرلمان التعليم الخاصّ بينما بلغت هذه النسبة 14 بالمائة بالنّسبة لكامل الشّعب الأمريكي. أمّا إصلاحات أوباما فهي لم تخرج عن هذا الإطار إذ أقرّ عقودا مع المؤسّسات التعليميّة العموميّة ومن بين شروط هذه العقود التزام أغلبيّة المدرّسين بعدم الانتماء إلى أيّ مؤسّسة نقابيّة حيث يتعرّض هؤلاء إلى خطر الطرد ويفرض على التلاميذ المتخلّفين في الدّراسة عناية فائقة من أجل ضمان مردوديّة عالية للمؤسّسة التعليميّة. اعتمدت إدارة أوباما على مبدأ التنافس بين المؤسّسات التعليميّة ورفعت شعارات النجاعة ولم يحل ذلك دون تعمّق أزمة التعليم بصفة عامّة وتعمّق ظاهرة التفاوت بين مختلف فئات الشّعب خصوصا بين المواطنين السّود واللاّتينيّين وبقيّة الشّعب.

-VII- التعليم والتشغيـل

لا تخلو الصحف اليوميّة والمؤسسات الإعلاميّة من الحديث عن ضرورة ربط التعليم بالتشغيل ودمج المتعلّمين في الدورة الاقتصاديّة. فالكلّ يبحث عن الحلقة المفقودة التّي تسبّبت في هذه القطيعة. لم تصبح قضيّة التشغيل مسألة تشغل المسؤولين والسياسيّين والباحثين سوى في العقود الأخيرة. تعدّدت الدّراسات حول علاقة التعليم بالتشغيل وعن ضرورة استجابة الأوّل للثاني وانفتاح المؤسسة التعليميّة على عالم الإنتاج. رغم كلّ الجهود والإصلاحات والمشاريع تواصل ارتفاع نسبة البطالة في العالم المصنّع إجمالا. أمّا في البلدان النامية التّي ترتبط بالبلدان المصنّعة في جميع المجالات والتّي اندمج اقتصادها بدرجات متفاوتة مع الاقتصاد الدّولي فإنّ المسألة لا تختلف جذريّا وإن كانت أشدّ حدّة. ليس من الغريب أنّ القطيعة بين المجال التعليمي ومجال العمل قد ترافقت مع انفصال الحياة الفرديّة وحتّى العائليّة عن الحياة الاجتماعيّة بما في ذلك الحياة المهنيّة. في مرحلة ثانية نلاحظ قطيعة بين ميدان الدّراسة خلال الإنهاء منها وبين ما يعرف بسوق الشغل إذ لم يعد حصول الشهادات ضمانا للحصول على العمل كما أنّه عادة ما لا يرتبط الشغل بالمعارف التّي وقع الحصول عليها من خلال التعليم. المؤسسة بحاجة لكفاءة قبل كلّ شيء وهذا لا يعني بالضرورة شهادة. كلّ الإعلانات الصحفيّة حول عروض الشغل تكاد تتوحّد حول المطالبة بالتجربة المهنيّة. لكن من أين للطالب الذّي أنهى دراسته أن يحصل على التجربة إذا كان لم يلتحق بعد بمؤسسة تشغّله. من هنا برزت أطر تتوسّط بين الدّراسة والتشغيل مهمّتها إعداد الطلبة الذّين أنهوا دراستهم أو تهيئهم للالتحاق بالمؤسسات الصناعيّة أو غيرها من المؤسسات وذلك من خلال عقود.

عرفت سياسات التعليم تحوّلات هامّة. فمن الكلّ المدرسي والتعليمي العمومي الذّي ميّز ظهور الدّولة-الأمّة وحصول البلدان على استقلالها إلى حدّ نهاية الستّينات بدأ العالم يعرف التنافس على الشغل (رغم أنّ البطالة كانت موجودة ومثّلت إحدى ركائز المجتمعات الغربيّة) وذلك بحدّة لم يعهدها في السابق إذ توسّع التنافس من العمّال ليطال المختصّين وأصحاب الشهادات وتحوّلت السياسة العموميّة من دعم المؤسسة التعليميّة إلى التخلّي التدريجي عنها لصالح تعليم خاصّ (إضافة إلى الدّروس الخصوصيّة في المؤسسات التعليميّة العموميّة) وانهمكت الدّول في إدارة البطالة. في ظلّ هذه الأزمة ظهرت المهن الوقتيّة والمناولة والتعاقد وكلّها أشكال هشّة للشغل تعرّض صاحبها للبطالة في كلّ وقت بينما أجبرت المؤسسة على ما يسمّى التأهيل الشامل والهيكلة لتنافس مثيلاتها في العالم وما يصحب ذلك من حدّ من عدد العاملين عمالا وأصحاب شهادات وذلك في كلّ المستويات والاختصاصات. أصبحت مقاييس تقييم المؤسسة التعليميّة لا تستند للمعايير النظريّة التّي أفرزت مقارنات دوليّة بين المؤسسات الجامعيّة على سبيل المثال بل إنّ مجال التقييم الفعلي هو مدى استجابتها لسوق الشغل. بطبيعة الحال كلّما شعر التلميذ أو الطالب أنّ التعليم الذّي يتلقاه لن يضمن له الشغل غادر المؤسسة التعليميّة أو انقطع عن الدّراسة علما بأنّ هذه الشعب عادة ما تتفاقم فيها ظاهرة العنف.

كيف نؤقلم المؤسسة التربويّة مع حاجيات السوق؟ لكن أيّ سوق؟ أي إنتاج؟ لأيّ هدف؟ ما هي الحاجيات التّي نبتغي توفيرها؟ أي مستهلك؟ أي معنى لهذا الإنتاج؟ ثمّ هل نتعلّم فقط لننتج ونرفع من مستويات الإنتاج ونحقّق زيادة في المنتوج الدّاخلي الخام ونصدّر؟ أسئلة لن نجد لها من أجوبة. أمّا بالنسبة للطالب المتخرّج ففي عديد الحالات لم تهيّئه المؤسسات التعليميّة لمثل هذه الأسئلة بل أنّه لن يخطر بباله طرحها على نفسه لأنّ المسألة الأمّ التّي تؤرّقه هي كيفيّة الحصول على شغل لضمان القوت والدّخل والتمكّن من الاندماج في المجتمع والزواج وبناء عائلة ولم لا شراء سيّارة. لم يعد الارتقاء الاجتماعي مرتبطا بالضرورة بالتعليم وإن شهد هذا الأخير استقطابا بين أقليّة ونخبة ضيّقة من ناحية وأغلبيّة معرّضة إلى البطالة والتهميش.

أين يكمن الحلّ إذن؟ ما حيلتنا أمام تزايد أعداد العاطلين والمهمّشين؟ بالنسبة لخبراء الاقتصاد وحتّى التصوّر العام المهيمن في المجتمع يظلّ الاستثمار وبعث المشاريع والتنمية وحشيّة كانت أم « مستديمة » وبعث المشاريع الصناعيّة وتعصير الفلاحة وغيرها من المشاريع هي الحلّ والمفتاح. التنمية الحاليّة أدّت إلى البطالة ولكنّها هي الحلّ للبطالة. من التنمية إلى البطالة فمزيد من التنمية. هكذا ندور في حلقة مفرغة. لنساعد الشّبان على بعث المشاريع الصغرى والمتوسّطة لكن أية مشاريع وما هو مدى تأقلمها مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟ لنحثّ الاستثمار الخارجي ونهيئ له أسباب النجاح والعمل لكن ما هي الضريبة لهذا التوجه إن على المستوى الاجتماعي أو البيئي؟ هناك فكرة رائجة في أوساط الخبراء ويكاد يقبلها كلّ المجتمع دون نقد أو مجرّد الشكّ مفادها أنّه كلّما طوّر الأفراد إنتاجهم وساهموا في خلق الثروة إلاّ وعاد ذلك بالنفع على المجموعة. كانت هذه الفكرة التّي هيمنت في البلدان المصنّعة أثناء القرنين 18 و19 ونتج عن كلّ ذلك تسارع في الإنتاج وتراكم للمواد القابلة للاستهلاك بل إنّ الحركات الاحتجاجيّة التّي قام بها العمّال من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعيّة قد ساهمت في دفع عجلة الاستهلاك. لنأخذ مثال فرنسا : لاحظ الخبراء الاقتصاديّون هناك أنّه للقضاء على البطالة لا بدّ من ضمان نسبة نموّ سنويّة تبلغ 4 بالمائة وذلك لمدّة ثلاثين سنة. يعني ذلك أنّه للقضاء على البطالة لا بدّ من مضاعفة الإنتاج أربع مرّات وذلك يعني أربع أضعاف عدد السيارات وآلات الغسيل واستهلاك مواد الطاقة... لكن ذلك يبدو مستحيلا. فكلّ زيادة في الإنتاج وتسارع في التنمية تعني بالضرورة الكارثة : تلوّث، تراكم النفايات (تلقي تونس سنويا 75 ألف طن من النفايات الكهربائية والإلكترونية)، استغلال الموارد... لنتصوّر أنّ سكّان الصّين الشعبيّة يبلغون مستوى استهلاك البلدان المصنّعة من السيّارات : سيؤدّي ذلك إلى نفاذ مناجم الحديد والنحاس والزّنك ومصادر الطاقة الأحفوريّة... يلاحظ المفكّر Albert Jacquard أنّه في عهد Adam Smith المفكّر الاقتصادي كانت 97 بالمائة من النشاطات الاقتصاديّة للبلدان الغربيّة موجّهة لإنتاج مواد خاضعة للبيع والشراء. أمّا اليوم فما يقارب 50 بالمائة من النشاط الاقتصادي يتمثّل في النشاط غير السلعي مثل الصحّة والتعليم وغيرهما... لكي نطبّق نظريّات آدم سميث علينا أن نخصخص هذه القطاعات العموميّة ونجعل منها بضاعة أو خدمة تباع وتشترى وهذه هي البربريّة بعينها. من ناحية أخرى وباعتبار الاستنزاف الذّي تعرفه مصادر الكون من مياه وهواء وبحار وتنوّع بيولوجي وغابات ومناجم وموارد الطاقة فلقد دخلنا مرحلة لا يمكن فيها أن نواصل على نفس الوتيرة وإلاّ عرّضنا وجودنا للخطر. فنحن نعيش بوادر حروب المياه. كلّ بطالة تنتج عن تضخّم في الإنتاج لأنّ العمل ليس بخيرات نتقاسمها بل هو خلق للخيرات. فالبطالة ليست العجز عن خلق الخيرات القابلة للاستهلاك وذات القيمة الاجتماعيّة. من ناحية أخرى ساهمت العولمة وتسارع التبادل التجاري بين البلدان في التفاوت بين البلدان الصناعيّة وبلدان الجنوب من ناحية وفي تعميق التفاوت داخل البلد الواحد صناعيّا كان أم ناميا بين جهات مهمّشة وعادة ما يغلب عليها الطابع الزراعي وبين أخرى حضريّة تتكثّف فيها الخدمات وتزيد اختناقا بسكّانها.

هناك رهان آخر يعوّل عليه رجال الاقتصاد للقضاء على البطالة سواء في البلدان المصنّعة أو في بلدان الجنوب وهو التصدير : تصدير الخيرات الطبيعيّة والمنتجات الزراعية والصناعيّة وحتّى الخدمات. لكن التصدير ليس سوى نفي وتجاهل وتخلّص وهمي من الكلّ سواء منه الوطني أو العالمي. نصدّر لنحصل على فائض من العملة ولكن ذلك عادة ما يكون على حساب الحاجيات الدّاخليّة وعلى حساب قطاعات هامّة من الاقتصاد وكذلك على حساب البيئي والاجتماعي. ثمّ إنّ السوق العالميّة تكاد تكون مُشبعة ولعلّ قطاع النّسيج أحسن مثال إذ أنّه يعرف ارتفاع نسبة البطالة والطرد بفعل تراجع قدرة المؤسسات على المنافسة العالميّة. مع ارتفاع الإنتاجيّة وتطوّر الإعلاميّة والأتمتة أصبحت الصناعات الحديثة بحاجة ليد عاملة لها كفاءة محدودة في هذا الميدان أو ذاك. لكن هذه الكفاءة يمكن الحصول عليها في مدّة موجزة ممّا يهيّئ للتخلّص من جزء هامّ من اليد العاملة. حتّى في هذه الحال يصبح ترويج المنتوج رهين الحملات الإعلاميّة والدّعائيّة وسرعة بثّ المعلومة وإيصالها للمواطن. لذلك أصبحت المؤسسات توظّف جزء هامّا من استثماراتها للدّعاية بما في ذلك مؤسسات الصيدلة التّي تنفق في الدّعاية ثلاث مرّات ما تنفقه في البحث العلمي. في البلدان المصنّعة لا تعود البطالة فقط للتقدّم التكنولوجي وتراجع الحاجة لليد العاملة لكنّها إلى حدّ ما اختيار فرضه اختلال موازين القوى الاجتماعيّة وتراجع الحركات الاجتماعيّة. أمّا في البلدان النامية فلا بدّ من الإشارة إلى ذلك القضاء التدريجي للمجال الزّراعي وتفكيكه وفرض فلاحة مصنّعة وكيميائيّة معدّة للتصدير وتهجير الأرياف ودعم المناطق الحضريّة والساحليّة على حساب المناطق الداخليّة ذات الطابع الزراعي.

ما من شكّ أنّ العالم يمرّ بأزمة اقتصاديّة وماليّة ما فتئت تتفاقم تصاحبها أزمة بيئيّة تهدّد بكارثة. لم يعد بالإمكان المواصلة في نهب خيرات العالم وحرق التربة مبيدات وأسمدة والقضاء على التنوّع البيولوجي والبذور الأصليّة وهدر المصادر والخيرات. فحتّى المنظّمة العالميّة للزراعة المعروفة بمساندتها للفلاحة المصنّعة والكيميائيّة تراجع مواقفها وتدعو لفلاحة المزارعين وإعادة الاعتبار للرّيف وللزراعة العضويّة ولتقنيات خفيفة وملائمة وحتّى المسؤولين السياسيّين في العالم يقرّون بأنّنا قد بلغنا حدّا لا يمكن تجاوزه.

إذن نحن تجاه أزمة بطالة عالميّة هيكليّة مزمنة وهذا يعني أيضا أنّ الحلول لن تكون وطنيّة أو جهويّة بل كونيّة واجتماعيّة. إذا كانت البلدان التّي تعد بالاستثمار في بلدان الجنوب بما فيها بلادنا هي ذاتها تعاني من البطالة المستفحلة وإذا كانت التنمية بالوتيرة الحالية تفضي إلى كارثة بيئيّة فأيّ حلّ لمعضلة البطالة؟ لنتوقّف قليلا : الشغل كما يفهمه غالبيّة الناس هو في الحقيقة دلالة مخيالية أي تصوّر مهيمن وخاصّ بالمجتمعات المعاصرة وهو لذلك يعتبر نسبيّا في تاريخ البشريّة أي أنّه إفراز من إفرازات المجتمع. تاريخيّا انهزمت كلّ الحركات الاشتراكيّة الطوباويّة في مواجهتها لهيمنة هذا التصوّر ولعبوديّة الآلة العصريّة ثمّ ما لبث أن اندمج ما يقي منها في النظام الاجتماعي وتأسّست على قواعد جديدة كالماركسيّة أو الفوضويّة-النقابيّة وذلك على أسس عمالويّة واقتصادويّة. معظم الحركات الاشتراكيّة المعاصرة آمنت بإمكانيّة تحرّر البشر من خلال العمل والاقتصاد والتكنولوجيا وتطوير قوى الإنتاج وبلوغ الوفرة. بالتعليم نحقّق التربية وبالعمل نحرّر الإنسان وبمراكمة الإنتاج نحقّق الوفرة وبالتكنولوجيا المتقدّمة نحقّق العدالة الاجتماعيّة. كلّ الحركات الاشتراكيّة المعاصرة آمنت بمحوريّة الاقتصاد وأسّست نظمها الفكريّة على هذا الأساس. التنمية هي الملاذ أو الخلاص الوحيد للبشرية ووسيلتها لتحقيق ازدهارها وبالتنمية نضمن مواطن الشغل. الإنسان يحدد بحاجياته التي يحققها بالإنتاج والعمل في مجتمع يمتاز دائما بالندرة لأن الطبيعة لا توفر هذه الحاجيات بسهولة وبالتالي وجب إخضاعها فنصبح كما يقول ديكارت : " أسياد الطبيعة وأصحابها". من هنا نفهم مركزية الاقتصاد والإنتاج في نظرية التنمية والتقدم. لا بد من تحقيق مجتمع الرخاء قبل تحقيق مجتمع العدل والحرية ( شعار المجتمع الاشتراكي هو من كل حسب طاقته ولكل حسب جهده أما شعار المجتمع الشيوعي فهو من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجياته). إذن لا يمكن تحقيق الحرية المطلقة إلا مع الوفرة والسعي نحو مجتمع الوفرة ويفترض ذلك وضع علاقة الإنسان بالأشياء المتاحة في المرتبة الأولى بعد العلاقات الاجتماعية والثقافية وغيرها ( فهذه الأخيرة تخضع للأولى ) وصولا إلى اعتبار الإنسان شيئا من الأشياء. من هنا تبرز لنا النزعة التأليهية للتكنوعلوم التي تصبح محايدة ومستقلة ومعصومة من كل رجس. أول من ابتدع شعارات من نوع : المجتمع السبرنتيكي وعصر البيولوجيا هم السوفيت وقد تطورت هذه التعبيرات وأخذت أشكالا عديدة : مجتمع المعلومات، مجتمع الشبكات، القرية العالمية ومجتمع النمل.

تعتبر الليبرالية أن تراكم الإنتاج سيحد من الفروق الاجتماعية ويقرب الفئات لبعضها. فبالتكنولوجيا سنحقق الديمقراطية القصوى والمثلى ونوفّر الشغل ونحقق الرخاء وتتقاسم الماركسية اللينينية هذا الوهم. المهم أن نثق في التكنو-علوم والتقدم ولا نعطل مسيرتها وسيأتي الرخاء والعدل من تلقاء نفسيهما. لا تعارضوا الكائنات المحورة جينياOGM ، لا تقاوموا الاستنساخ، اتركونا نتلاعب بالجينات، جينات النباتات والحيوان والإنسان، اتركونا نزرع هنا وهناك المفاعلات النووية، تخلوا عن مشاعركم ومهجكم ومعارفكم العملية، اتركونا نطور هذا العالم ونُخضع الطبيعة ونحن نعدكم بمستقبل زاهر. اقترنت نظرية التنمية بالوعود : مجتمع ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد التاريخ. فلنترقب . أما دور الدولة في تحقيق النمو فالليبرالية تعتبره أساسيا (النظرية الكينزية) للحفاظ على قوانين السوق وحرية المبادرة وضبط قواعد النشاط الاقتصادي. فللدولة دور وظيفي وقتي . بالنسبة للنظرية الماركسية(وخصوصا اللينينية) الدولة هي أداة مرحلية مهمتها ضمان "ديكتاتورية البروليتايا" (حيث يمنع العمال من حق الإضراب) وتوجيه الاقتصاد بما يسمح بالتقدم « وتطوير قوى الإنتاج » بل لقد تبنى الإتحاد السوفييتي التنظيم التايلوري المعتمد في البلدان الرأسمالية وكان المثل الأعلى للاقتصاد الناجح والذي عبّر عنه لينين هو المثال الألماني. للدولة دور وظيفي. الغاية هي الوصول إلى مجتمع الوفرة والسعادة المثلى وكل خطوة تقربنا من الهدف فيتضاءل دور الدولة. كلا المفهومين يطرح إشكاليات ومفارقات. فإذا كانت التنمية أن نصل إلى مستوى معين لتطور قوى الإنتاج (مجتمع الرفاهة أو المجتمع الشيوعي) فماذا بعد التنمية؟ ماذا سنفعل؟ وإذا كان مفهوم التنمية والتقدم لا يعرف الحدود فعندها نتساءل ما هو الهدف من التنمية والتقدم؟ إلى متى نظل نرجئ الهدف إلى غد لا أخال فجره بقريب؟ هل يوجد احتمال ولو ضئيل أن يقودنا « التقدم » إلى عكس الرغبات المرجوة فنرتد إلى الوراء؟

يظل سؤال يؤرقنا ويبعث فينا الحيرة : لماذا الحديث عن التقدم والتنمية والحال أن البشرية لم تفعل منذ نشأت سوى أنها « تقدمت » و« نمت » ولكنها لم تعلن ذلك في برنامج ولم تربطه بمفهوم. يظهر أن فلسفة وضعانية تقف وراء كل ذلك وهي تخرق كل أيديولوجيات العصر بحيث أن اختلافاتها لم تمنع من توحدها حول ضرورة التنمية والتقدم. أما التنمية المستديمة فهي صورة بلاغية تتمثل في دمج كلمتين متناقضتين كأن تقول : "الوضوح المظلم الذي ينزل من النجوم" وهو تعبير لـ Victor Hugo وهذا الأسلوب في التعبير ابتدعه الشعراء للتعبير عن شيء لا يمكن وصفه أو تصوره أو تصنيفه وهو تعبير أصبح شائعا في أوساط التكنوقراط لكي يجعلوننا نؤمن بالمستحيل كأن نقول : « حربا نظيفة » أو "عولمة ذات طابع إنساني« أو » اقتصاد سليم ومتضامن". في الحقيقة إن واضعي التنمية المستديمة يريدون إيجاد صيغة تطيل من عمر التنمية وتعيد إنتاجها بصفة لا نهائية.

لكن اليوم وبعد أن أصبح هذا « التقدّم » التكنولوجي يحوي في طيّاته بذرة الموت ويهدّد بكارثة بيئيّة يتراءى لنا الخطأ الذّي سقطت فيه هذه التصورات الموروثة. فالمجتمع المعاصر يحيى وكأنّه نظام بيولوجي منتظم آليّا وبصفة ذاتيّة ومتوسّعا من خلال استهلاك الطاقة والمعلومة والمواد المتوفّرة ومن خلال تحكّم عقلاني في السيرورات الاجتماعيّة والطبيعيّة. هذا التصوّر علاوة إلى الكوارث الاجتماعيّة والبيئيّة والثقافيّة التّي أفرزها يعني في الحقيقة نفي المجتمع لذاته وللإنسانيّة بصفتها تتميّز عن كلّ الكائنات الحيّة بقدرتها على الخلق والتصوّر والبناء والقرار وكذلك التحديد الذّاتيّ. العمل من وجهة النظر المهيمنة يعادل بين بكتيريا ومجتمع (ولقد تأثّرت الماركسيّة على سبيل المثال بالداروينيّة).

خلال العقود الأخيرة تضاعف الإنتاج العالمي وزيادة وتراجعت ساعات العمل بنسبة تقارب الثلث (معدّل عالمي باستثناء الصين الشعبيّة). إذن تراجعت أيضا المدّة الزمنيّة المخصّصة للعمل خصوصا مع بروز التقنيات المعاصرة. نحن نعيش مفارقة : فالمجتمع يتطوّر على قاعدة البحث المتواصل عن تأمين وقت للعمل أي الشغل بينما تحدّ الإنتاجيّة العالية منه. هناك اتفاق جماعي حول ضرورة سدّ وقت فراغ في العمل من أجل توفير الشغل ولكن التطوّر التكنولوجي والتوجّه العام يؤول إلى الحدّ من مواطن الشغل. نسمع خطابا معهودا يحقّر من العاطلين ويتّهمهم بالكسل ورفض الشغل وعدم القبول بالأجر المقترح، "الشغل متوفّر ولكن الشباب يعزف عنه". يتذمّر بعض الملاكين العقاريّين وأرباب العمل خصوصا في مجال البناء من قلّة توفّر اليد العاملة والحال أنّ البلاد تعجّ بالعاطلين. في الحقيقة يعني ذلك أنّ الشباب يرفضون الاندماج من خلال الشغل وأيّ شغل !!! إنّها أزمة الشغل ذاتها كمفهوم : "بالعلم والعمل فرحة الحياة" أيّ علم وأيّ عمل وأيّة فرحة وأيّة حياة؟؟ يمضي الإنسان الوقت في الإنتاج والعمل والاستهلاك والمشاهدة والتقبّل وربّما البحث عن شغل. أمّا الجزء المخصّص للخلق والابتكار والصداقة والحبّ والوحدة والتفكير برويّة في الآفاق المستقبليّة فلا مكان له. قد يردّ علينا البعض : "هذا كلام مثقّفين معزولين، وهذه أفكار طوباويّة غير قابلة للتحقيق... أنتم تشكّكون في أسس النظام والمجتمع... أتحثّون على الكسل أليس الأجدر القبول بأيّ شغل بدل التقاعس؟..." لكن الشغل ليس في الحقيقة نقيضا للكسل ولكنه شرط له. من الذي بمقدوره التمتّع بالكسل باستثناء من بيدهم سلطة القرار؟ ثم ألم يصبح الشغل شكلا أو صورة نشطة و« عاملة » ومقنّعة للبطالة بما أنه قد فقد قيمته ومعناه وتحوّل إلى عقد يطول مداه أو يقصر ويحتكر الحياة ويلخصها إلى درجة الملل؟

تجرّنا قضيّة البطالة وأزمة التعليم والتربية إلى البحث في ما هو أعمق وأوسع وهذا ما يرفضه الغالبيّة. فأمام المأزق التّي تمرّ به المجتمعات والهزّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والماليّة والبيئيّة والثقافيّة والتعليميّة، أمام تذرّر المجتمع وانقسامه طبقات وفئات وجهات وعاملين ومعطّلين علينا أن نجدّد نظرتنا للعمل والشّغل والتكنولوجيا والاقتصاد والعمران والبيئة وللعلاقات البشريّة ولعلاقة البشر بالمحيط. لا مجال للحلول الجزئيّة والظرفيّة والمحدودة. لن تقدر استثمارات البترودولار أو الشّركات العالميّة على استقطاب مئات الآلاف من العاطلين ولن تجدي الوعود والآمال. لا مندوحة، إذن من التخلّص من محوريّة الاقتصاد وهذا يعني تخفيض ساعات العمل وتقاسمها لصالح نشاطات أخرى ثقافيّة، بيئيّة، ومخصّصة للابتكار ولنسيج العلاقات البشريّة. لا مندوحة من تصوّر معنى جديد لحياتنا يقطع مع الاستهلاك والوفرة والمراكمة والتقبّل. فخلال قرن ونصف زاد الإنتاج العالمي بالنسبة للفرد الواحد بنسبة 1300 بالمائة أي 13 مرّة ولم تتراجع ساعات العمل سوى بنسبة 45 بالمائة وفي نفس الفترة تضاعفت الإنتاجيّة 2500 مرّة ولكنّ البطالة ظلّت مستفحلة. الخيرات تتراكم والبلدان تعاني من تراكم الفضلات والنفايات (تلقي تونس سنويّا أكثر من 50 ألف طن من النفايات الإلكترونيّة والكهربائيّة) ولكن أعداد المهمّشين في ازدياد. يرافق كل ذلك إهدار للتربة ومصادر المياه وتهجير للريف وقضاء على التوازنات الطبيعية (تخسر تونس سنويا 10 آلاف هكتار من التربة الخصبة بفعل الانجراف والتصحر و خمس الأراضي الزراعية مهددة بفقدان خصوبتها في المستقبل القريب بفعل استعمال المبيدات والأسمدة وارتفاع ملوحة الأرض). ثم ما المعنى من اقتصاد عالمي أصبحت سمته الأولى المضاربات المالية؟ ففي هذا المجتمع الذّي أصبح شبيها بالكازينو يبلغ الاقتصاد الافتراضي من خلال التلاعب في البورصة 4 مرّات الاقتصاد الحقيقي. لا بدّ من إيلاء المصلحة العامّة والتضامن القيمة الأولى وهذا الاختيار لا يستند فقط على معاينة للأوضاع الدوليّة وليس تصوّرا ينبع من موقف أخلاقي فردي لكنّنا نعتبره بالأساس موقفا نضاليّا ورجعا لصدى الثورات العربيّة والعالميّة المنادية بالدّيمقراطيّة الحقيقيّة Real Democracy التّي لا تتلخّص في وضع ورقة انتخاب كلّ خمس سنين كما كان يصرّح المفكّر روسو.

لا بدّ من بروز مواطنة جديدة لا تتوقّف على الحقوق الأساسيّة لنخبة من المجتمع ولكنّها المواطنة المسؤولة التّي تقبل بتقاسم الخيرات وساعات العمل. لهذا نعتبر أنّه لا بدّ من ضمان دخل متقارب لكلّ المواطنين. فما الفائدة من ضمان شغل لـ20 ألف عاطل وترك 500 ألف آخرين عاطلين عن العمل. بطبيعة الحال لن يتأتّي ذلك سوى بمراجعة منوال التنمية (تربية وتعليما وثقافة واقتصاد وفلاحة وبيئة...) وتشريك كلّ الفاعلين والمواطنين دون أن يعني ذلك طبعا فرض سلطة دكتاتوريّة أو بيرقراطيّة شموليّة مهما ادّعت الثوريّة وتمثيلها للشعب. أمّا تقديم الإعانات وتخصيص صندوق للعاطلين ورغم أنّه يوفّر قدرا من الدّخل للعاطلين فهو لا يخلو من إهانة. فالعاطلون يطالبون بحقّهم كاملا كمواطنين من نفس الدّرجة ويرفضون المنّة والصدقة ويريدون المساهمة في نحت ملامح المجتمع. لن تقدر الاستثمارات على القضاء على البطالة (ثمّ إنّ مواطن الشغل المستحدثة عادة ما تكون هشّة ومعرّضة للاهتزاز) علما بأنّ الاستثمارات ستحثّ على مزيد من الاستهلاك وتحدث حاجيات جديدة مع ما ينتج عن ذلك من انعكاسات بيئيّة. فالحياة الجماعيّة ليست مجرّد آلة ضخمة بعض قطعها غير ضروريّة لتشغيلها بل أثر تاريخيّ يساهم في نحته كلّ النّاس منذ الولادة إلى الموت. إنّ الذّين يحلمون بأنّ الاستثمارات القادمة من البلدان الغربيّة (أو من بلدان البترودولار) ستقضي على البطالة وتبعث المشاريع وتحوّل البلاد إلى هنغ كنغ ثانية يتجاهلون حقيقة أنّ هذه البلدان ذاتها تعاني من أزمة البطالة. ففي الولايات المتحدّة الأمريكيّة تعاني كلّ قطاعات الإنتاج والتعليم من عدم استقرار الشغل وقد طال ذلك حتّى الأساتذة الجامعيّين. على سبيل المثال برزت في العقود الأخيرة خطّة الأستاذ الجامعي المعوّض. أمّا الأساتذة الجامعيّين المرسّمين فنسبتهم في تراجع مستمرّ. يدفع العمل المؤقّت والجزئي بقسم هامّ من الشعب إلى القيام بأشغال متعدّدة لضمان القوت اليوميّ. يعتبر البعض أنّ البطالة لا تنفصل عن منطق الرّأسماليّة الفاحشة والعولمة المتوحّشة لأنّها تشكّل أداة لضبط التحرّكات الاجتماعيّة. لكنّ هذا التفسير يظلّ وحيد الجانب وقد يسقطنا في الاقتصادويّة البحتة وفي استنتاجات اليسار التقليدي. فالمسألة تتعلّق بالعمل كقيمة وكمعنى وبالتعليم كمعنى وبتقدير دور الاقتصاد في الحياة العامّة. فهذه المجتمعات المعاصرة قد جعلت من الاقتصاد محور الحياة ومن الاستهلاك أساسه وأدّى ذلك إلى تخريب للمحيط وتفكيك للمجتمع. في الحقيقة وبالرجوع إلى مختلف المواقف يتبيّن أن اليسار عادة ما يقف على يسار مواقف اليمين ليتميّز عنه ولكنّه يظل بذلك مرتبطا به وقد أثبتت الأحداث التاريخية أنه لا يمكن تجاوز اليمين بالوقوف على يساره.

في أوروبا يبلغ متوسّط نسبة البطالة 10,2 بالمائة ويقرّ الخبراء أنّ كلّ شهر يأتي برقم قياسي جديد. بالنسبة للديوان الأوروبي للإحصاء فلقد سجّل شهر ديسمبر 2011 مستوى تاريخيّا لم تعهده أوروبا. إسبانيا هي البلد الذّي سجّلت فيه أعلى نسبة إذ بلغت 22,8 بالمائة وتبلغ 18,3 بالمائة في اليونان. حتّى البلدان التّي سجّلت فيها نسب منخفضة مثل هولندا والنمسا فإنّ التوقّعات تشير إلى التحاقها التدريجي بالمستوى العام. إذا خصّصنا هذه الإحصائيّات على الشباب الذّين يبلغون أقلّ من 25 سنة فإنّ نسبة البطالة ترتفع لتبلغ 20,5 بالمائة وشباب إسبانيا هم الأكثر تعرّضا للبطالة إذ أنّ 43,2 بالمائة منهم عاطلون بينما تبلغ النسبة 26,2 بالمائة في إيطاليا و25 بالمائة في فرنسا. تتحدّث المنظمة العالميّة للشغل عن "شبح الجيل الضائع". من ناحية أخرى فإنّ زيادة نسبة البطالة وقدوم أفواج جديدة من العاطلين يهدّد بالتخلّي عن جزء من منح البطالة. بخلاصة ما يقارب 18 مليون أوروبي معطلون عن العمل. حالة البرتغال ملفتة للانتباه ففي هذا البلد الذّي يئنّ من أزمة اقتصاديّة خانقة دعا الوزير الأوّل أخيرا مواطنيه إلى البحث عن الشغل خارج الحدود بقوله : « هاجروا » لكن المواطنين أجابوه : "حتّى وإن قبلنا بهذا الحلّ فهل هناك مكان نهاجر له"؟

أمّا في الصّين الشعبيّة القوّة الاقتصاديّة الثانية في العالم فتبلغ نسبة البطالة فيها 22 بالمائة ممّا جعل مسؤولا من وزارة الشؤون البشريّة يلقي صيحة فزع. فهناك 100 مليون عامل فلاحي دون شغل. من المعلوم أنّ الصين التّي انطلقت في مغامرة رأسماليّة متوحّشة قد عمدت إلى تصنيع الفلاحة وتهجير الأرياف بحثا عن اليد العاملة التّي تتطلّبها المصانع واعتمدت سياسة السّدود الكبيرة وتهميش المناطق الفلاحيّة. فالتحدّي الرّئيسي الذّي ستواجهه الصين بيئيّ بالأساس : تلوّث، إهدار للماء والتربة، القضايا على التوازنات البيئيّة...

أمّا بالنسبة للبلدان العربيّة فلقد حذّر المعهد العربي للتخطيط من الارتفاع المتسارع لأعداد العاطلين عن العمل بحيث قدّر أنّه سيبلغ 19 مليونا سنة 2020. في تونس وحسب دراسة لوزارة التشغيل والبنك الدّولي لسنة 2008 بلغت نسبة البطالة 14 بالمائة أمّا بطالة الشّباب بين 18 و29 سنة فهي تفوق بطالة الكهول ثلاث مرّات. في دراسة استشرافيّة (أنظر جريدة لومند بتاريخ 7 جانفي 2011) تبيّن أنّ 17 بالمائة من المتخرّجين من الجامعة مكثوا عاطلين عن العمل لمدّة تزيد عن ثلاث سنين ونصف. في سنة 2011 بلغت نسبة البطالة 16,3 بالمائة أي أكثر من 650 ألف عاطل وستبلغ هذه النسبة 19 بالمائة بحلول سنة 2012. من بين العاطلين هناك 160 ألف متحصّلون على شهادات جامعيّة. منذ سنة 2010 أقرّت الدولة برنامجا أطلقت عليه "تعصير نظام التكوين المهني والتعليم وتأهيلهما وإعادة هيكلة نظام التعليم حتّى يصبح في خدمة أصحاب الشهادات والمؤسسة والقطاعات الاقتصاديّة...". تخلّت الدولة عن دورها في توفير الشغل وبالمقابل دعت الشباب إلى بعث مشاريعهم الخاصّة من خلال تقديم القروض الصغيرة. لكن هذا الشباب الفاقد للتجربة الاجتماعيّة والمهنيّة والحالم بشغل قار في مؤسسة عموميّة لن يجازف بالتداين. حسب دراسة للمعهد القوميّ للإحصاء فقد ارتفعت نسبة البطالة في أوساط المتخرّجين من الجامعة من 14 بالمائة سنة 2005 إلى 32 بالمائة سنة 2010. بالنسبة للتقنيّين السّاميّين زاد عدد العاطلين من 17900 سنة 2005 إلى 57900 سنة 2010 وهذه الفئة تمثّل 41,6 بالمائة من جملة العاطلين والمتحصّلين على شهادات عليا. إذن يمكن القول أنّ هناك إفلاس يكاد يكون تامّا للمؤسسة التعليميّة وعجز عن استقطاب القطاعات الاقتصاديّة المختلفة لهذه الأفواج من الشباب المتخرّجين من الجامعات والمدارس العليا.

نحن نتلقّى إرثا معرفيّا راكمته البشريّة بمختلف حضاراتها وعلى مدى قرون وبالمقابل لا ندّخر جهدا نقدّم ما لدينا من إمكانيّات وهذا يتناقض مع عقليّة : « انهض أو فلتمت » أو « البقاء للأصلح » ومع عقليّة استنزاف الخيرات الطبيعيّة. لا يمكن تحرير قدرات البشر على الخلق إلاّ متى وفرّنا لهم دخلا متقاربا ولم نجعل من قضيّة البحث عن الشغل القضيّة الرّئيسيّة التّي تؤرق الشباب. قد يعارضنا البعض ويردّ علينا بأنّ ذلك من شأنه الحثّ على الكسل بحيث يتحمّل جزء من المجتمع المسؤوليّة كاملة بينما يتمتّع الباقي بثمار نشاطهم. في الواقع لا يمكن فهم هذا المقترح إلاّ إذا ما صهرناه في تصوّر اجتماعي وسياسي واقتصادي وبيئي متكامل نطلق عليه بالمجتمع الدّيمقراطي الحقيقي الذّي يعمل على التحويل البيئي للاقتصاد. يمكن أن نعيد للعمل قيمته الفنيّة وجانبه التحرّري ونتقاسم الأشغال الثانويّة.

ما علاقة كلّ ذلك بالتعليم؟ كيف لا نجعل من المدرسة والجامعة محاضن لتفريخ العاطلين؟ لا بدّ للتعليم أو التربية بصفة عامّة أن تعدّ جيلا لتحمّل مسؤوليّاته والمساهمة الحرّة في بناء مجتمع متضامن لا أن نحشر دماغه بمعارف ومعلومات متجزّئة ونرسّخ فيه روح الأنانيّة والفردانيّة. لا بدّ أن تكوّن المعارف التّي يتلّقاها التلميذ والطالب أسسا يبني عليها ويبتكر ليساهم في البحث العلمي والتقني والثقافي والبيئي خدمة للمجتمع قاطبة وليندمج في المجتمع لا فقط كقوّة منتجة وعاملة ولكن كمواطن مسؤول لا تقتصر مواطنته في الحصول على الشغل. بطبيعة الحال لا بدّ أن ينصهر ذلك في تصوّر شامل لا يقتصر فقط الحلول الظرفيّة المحدودة في الزّمان والمكان كما أنّه يتطلّب تضامنا دوليّا ومراجعة أسس العلاقات التي تربط بين المجتمعات والبلدان.

(.../...)

Seconde partie disponible ici


Commentaires

Navigation

Mots-clés de l’article

Articles de la rubrique

Soutenir par un don