بين خمود التاريخ والحركات القيامية الكارثية : من الستالينية إلى السلفية

dimanche 28 août 2011
par  LieuxCommuns

بين خمود التاريخ والحركات القيامية الكارثية :  من الستالينية إلى السلفية Guy Fargette خلال العقود الثلاثة الأخيرة عاشت البشرية حالة من الجمود و الخمول الاجتماعي. فرغم الهزة التي عرفتها البلدان المصنعة والمتمثلة في الأزمة المالية لسنة 2008 حافظت البلدان الرأسمالية إجمالا على نفس النهج الاقتصادي النيوليبرالي ولم تؤثر العمليات الانتخابية وانتقال السلطة السياسية من هذا الحزب إلى ذاك في هذه السياسة. لقد تحملت الدولة أساسا انعكاسات هذه الأزمة المالية بالقبول بتراكم ديون الدولة واعتماد سياسة « التقشف » والقيام ب« إصلاحات » لصناديق التقاعد.

بادئ ذي بدء لا بد أن نلاحظ بان الأنظمة الغربية لاهي دكتاتورية ولا هي ديمقراطية. لا تكمن حقيقة الأزمة الاقتصادية في هذا الانخرام المالي أو في تعاقب سلسلة من تضخم الإنتاج ففي هذه الحال يمكن للدولة أن تتدخل لتعديل الأمور. فالأزمة تعبر عن حقائق ملموسة لطالما تغاضى عنها العديد من المحللين والأحزاب السياسية.

لقد دشنت البلدان الغربية مرحلة استهلاكية جديدة بحيث فاق الاستهلاك القدرة على الإنتاج وقد أدى ذلك إلى استيراد المواد المستهلكة من خارج الحدود. فبخلاف ما تروج له المواقف العالمثالثية و المعاداة العقيمة والبدائية للامبريالية فان « رفاهية » العالم الغربي تعود أساسا إلى تطور التقنيات واعتماد طرق تنظيم وإدارة جديدة للعمل تتماشى مع درجة تطور العالم الرأسمالي وهذا طبعا دون التغافل عن استغلال هذه البلدان للعالم الثالث والذي انتفعت منه أقلية من المجتمعات الغربية. فهذا الاستعمار كان في الحقيقة تسابقا على الهيمنة على مناطق العالم بين مختلف القوى الاستعمارية وذلك في صراعها المباشر وبالتالي كانت له أهمية أساسا جيوستراتيجية وذلك للحيلولة دون حصول الخصم المنافس على مكاسب سيكون لها انعكاس على اختلال موازين القوى بين الأطراف الاستعمارية. من الملاحظ أن تخلي هذه البلدان عن مستعمراتها قد ترافق مع « نهضة » اقتصادية في البلدان الغربية وذلك خلال الفترة 1950-1960. يمكن تحديد الفترة المتميزة لهذا التطور أساسا بين سنوات 1960-1970 وهي الفترة التي هيمنت فيها الكينزية أي التوزيع الموجه من طرف الدولة كما يمكن اعتبار السنوات 1920 نقطة انطلاق لتوسع مجتمع الاستهلاك وقد صحب ذلك خضوع قطاع الفلاحة للتصنيع واعتماده المحروقات والمبيدات والأسمدة الكيميائية. فلقد عرفت الثلاثين سنة من « الرخاء » الاقتصادي الذي عقب الحرب العالمية الثانية اعتماد البلدان الرأسمالية على المحروقات من نفط وغاز طبيعي وعرف الغرب تسارعا في الاستهلاك. في هذه المرحلة يمكن ربط المكاسب التي حصل عليها العمال أساسا بالتحولات التقنية أو بتلك المرتبطة بالتنظيم و الإدارة. ماذا يحدث عندما يشرع مجتمع في استهلاك كمية تفوق قدراته الإنتاجية كما حصل في الاتحاد السوفيتي خلال الفترة 1970-1980. فلقد بلغ الاتحاد السوفيتي في هذه الفترة حالة قصوى من الجمود الاقتصادي الذي كان ينذر بالانفجار وقد شرع في الاستيراد مقابل المداخيل المتحصل عليها من بيع مواد الطاقة. يمكن القول أن هذا المأزق ناتج بالأساس عن عجز الاتحاد السوفيتي عن مدّ نفوذه إلى كل مناطق أوروبا إضافة إلى العوامل الداخلية.

في الحقيقة لقد عادى الستالينيون الامبريالية الأمريكية أساسا لكون الولايات المتحدة الأمريكية كانت تشكل العائق الرئيسي أمام أطماع الإمبراطورية السوفيتية أي أنها كانت تحمي أوروبا الغربية من أطماع الدب السوفييتي. مع تراجع أسعار المواد الأولية في مطلع الثمانينيات وتعطل الإنتاج الداخلي وزيادة نهم القطاع العسكري عرف الاتحاد السوفيتي أزمة خانقة أدّت في الأخير إلى انحلاله وتفتته غير مأسوف عليه.

منذ السنوات السبعين من القرن الماضي أصبح الغرب يعيش على التداين ولم تقدر إعادة استعمال البترودولار على تجاوز المأزق. لقد وقع « تخطي » الأزمات المالية لسنوات 1987 و 1993 و1990 وسنة 2000 بتأجيلها عن طريق توسيع دائرة التداين وتوزيعها وقد عرفت الأزمة حدها الأقصى في سنة 2008 مما استدعى تدخل الدول للحيلولة دون تعطل الآلة البنكية.

يواجه مجتمع الاستهلاك خطر التفكك وذلك في كل المؤسسات المكونة للمجتمع والمحركة له. لقد أصبح الاستهلاك بمثابة دين العصر لكن آلهته مهددة بالسقوط.

ما هي الخصائص الجوهرية للمجتمعات المعاصرة؟

لقد أصبحت المجتمعات الصناعية ضحية لتأثير الاختيارات السابقة ولنجاحاتها الرائدة والاستثنائية مقارنة بالمراحل الماضية. فلأول مرة في التاريخ تمكنت هذه المجتمعات من تحقيق وفرة فعلية ودائمة وذلك على مدى أجيال متعاقبة وقد برز هذا الأمر « طبيعيا » بالنسبة لعامة الناس فرغم أن هذه « الوفرة » قابلة للنقد اللاذع بالنظر إلى نقاط ضعفها (الهرمية الاجتماعية- نسبيتها- انعكاساتها البيئية الكارثية- تهميش أقلية من المجتمع غير المتمتّعة بهذه الوفرة والتي ما فتئ عددها يتزايد) فلقد استهانت مختلف النظريات السياسية الرسمية والرائجة بالدور الاجتماعي والتاريخي لهذا النجاح. أما الايدولوجيا النيوليبرالية فلقد برزت الأقل تجاهلا لهذه الظاهرة وعبّرت عن التفاؤل وهذا يفسّر إلى حد بعيد تأثيرها العميق في المجتمعات المعاصرة رغم ما يشوب خطابها من سمات لاعقلانية ومغالطات.

لقد لبّت انجازات مجتمع الاستهلاك تلك المطالبة الطوباوية والتقليدية التي هيمنت على أغلب المجتمعات البشرية. إن مشروع الوفرة لم يكن قد أعدّ له بإرادة واعية ومسبقة بل نتج عن تضافر عوامل تاريخية خاصة بالبلدان الغربية. فلقد غمر كل العقول والذهنيات متجاوزا الأوساط الضيقة للفئات المهيمنة في المجتمع. فحتى مختلف أوجه النقد الذي نلاحظه في البلدان الغربية تجاه هذا المشروع والمؤهل أكثر من غيره للقيام بذلك فلقد عجزت عن تقديم مشروع بديل للمستقبل. يزايد أصحاب هذا النقد على « المنطق » المهيمن في المجتمع ويقترحون حلولا تقنية جديدة تتغافل عن حدود ومصاعب هذه « الحلول » المزعومة.

فحماة البيئة لم ينفكوا عن رفع شعارات وترديد خطب ما لبثت الحكومات ودوائر الدعاية والإشهار أن تبنتها وأدمجتها في جملتها بل لقد تحولت المشاريع البيئية للدولة مثل تلك التي أعلنت عنها الحكومة الفرنسية في سنة 2007 (Grenelle de l’environnement) إلى عملية ٳشهارية ودعائية دعمتها المساومات ومهادنة أحزاب الخضر والجمعيات البيئية التي ارتضت بدور الشريك الثانوي والهامشي للدولة. في الحقيقة لا يمكن للخطاب البيئي أن يجد صدى له في الواقع إلا إذا تحول إلى خطاب ندرة ضرورية لغالبية الناس (لقد وقع استنزاف الخيرات التي أصبحت مهددة بالاندثار...). لكن هذا الخطاب مرفوض تماما وبصفة آلية ولا شعورية من طرف الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا وهذا جليّ بالنسبة « لآداء الفحم » الذي تخلّت عنه فرنسا (أداء على تلوث المحيط). فإذا أراد حماة البيئة أن يلعبوا دورا في مؤسسات السلطة عليهم أن يحولوا دون تمكن الفئات الأكثر فقرا من هذا الاستهلاك وهذا ما ترفضه هذه الفئات الحالمة بالاندماج في هذا المجتمع. فالنجاح التاريخي لمجتمع الاستهلاك بارز وجليّ بقوة في المجتمعات الغربية وفي الصورة المتشكلة حوله سواء بصفة إرادية أو لا إرادية وهذا ما يشجع على موجات الهجرة العالمية.

لقد غابت هذه الصورة وتشوّهت في النقاشات السياسية (وفي أقصى تقدير أصبحت من الحاصل المحصول بحيث انقطع هذا الانخراط الكامل في هذا المجتمع عن كل الانعكاسات السلبية الملموسة والآثار الجانبية وتغافل عنه. فهذا التجاهل أو العماء يشمل كل الشعوب سواء تلك التي تتمتع بهذه الوفرة التي يسمح بها مجتمع الاستهلاك أو من يصبو لبلوغها (الكل يريد الإستهلاكنفقراء وأغنياء، شعوب البلدان المصنّعة وشعوب بلدان الجنوب)

الكل يتجاهل ويتجنب الآثار الوخيمة والبارزة لهذا الاختيار ويتعامى عن رؤيته وهذا ما يميّز الأزمة الحالية التي تعيشها البلدان الغربية عن الأزمة التي عرفها الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة.

فهذه الشعوب ترفض الخروج من هذا النظام الاجتماعي القائم حتى وان أقر المسؤولون عنه والقائمون على مؤسساته بأنه لا يمكن التمادي في هذا النهج إلى ما لا نهاية له وأن هذا المجتمع لم يعد قابلا للحياة والتواصل. فهذه الأزمة التي انطلقت في سنة 2007 وتواصلت في أشكال متعددة تختلف جوهريا عن أزمة الاتحاد السوفيتي السابق وهذا في ما يخصّ علاقة الشعب بالمجتمع.

فنحن إزاء شعوب تريد الإبقاء على هذا المجتمع وعلى طريقة إدارته واختياراته. الكل يريد الاستهلاك وهناك تعلق أنتروبولوجي به وهذا ما أرهق « النخب » وحال دون تقديره حق قدره وما عجزت كل النصائح بإحكام العقل والحكمة عن إثناء الشعوب عنه.

من ناحية أخرى نلاحظ أن تحليل طبيعة مجتمع الاستهلاك قد طرح أرضا وأسقط كل النبوءات السخيفة والخاطئة لمختلف اتجاهات الماركسية حول « التفقير المطلق » والحتمي والذي يمثل قاعدة لنبوءاتهم السياسية والدينية. يمكن اعتبار الماركسية في هذا المجال بالديانة التوحيدية الرابعة.

فرغم البروز الجلي للحدود الفعلية لهذا الاختيار وتعدد الأصوات المنبهة بذلك لم تجد هذه الأخيرة من سامع ومن مجيب وهذا بالنسبة للغالبية من المواطنين الذين عادة ما يبحثون عن مسؤول وكبش فداء لهذا الانهيار المتوقع ويطالبون بأن لا يتكرر ذلك. هكذا تعدّدت نظريات المؤامرة وتزايدت بسرعة مذهلة.

منذ الستينات من القرن الماضي عرفت البلدان الغربية واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا... سلسلة من التحولات الأنتروبولوجية الهامة علاماتها الأساسية تجسدت في تحرر المرأة وتحسن ظروف الحياة لفئات واسعة من العمال سواء بصفة مباشرة أو من خلال بلوغ أبنائهم مراتب اجتماعية نسبيا عالية. لتقدير أهمية هذه الديناميكية علينا أن نتخلى عن التحليل بمنطق الطبقات الأفقية المتصارعة من خلال آليات الإنتاج. فلقد مثّل هذا التصور الماركسي اختزالا خاطئا وعقيما لآليات تطور المجتمع الصناعي (دون اعتبار المجتمعات ما قبل صناعية) حتى وان مثل ذلك عاملا هاما في وضع الإصبع على الأبعاد الاجتماعية الجديدة التي أنتجت حركة التصنيع. فاليوم، وبفعل مختلف الحركات والضغوطات التاريخية ذات المنحى التحرري (والتي مثّل الغرب مصدرها الأساسي) ومع اتجاه الركود المتصاعد للمجتمعات الأكثر تصنيعا وتراجع الصراعات الاجتماعية التي دامت من سنة 1830 إلى سنة 1950 في القارة الأوروبية فلقد أصبح من العقم بمكان تطبيق المنطق الكلاسيكي للطبقات بما أن هذه المجتمعات أصبحت ذات طابع أوليغارشي تسودها الزبونية (فمظاهر الفساد المختلفة والمتعددة أصبحت العلامة المميزة لهذه المساومة الاجتماعية). ففي مجتمع مقسّم إلى طبقات وفق النظرية الماركسية الكلاسيكية تنقسم المجموعات الاجتماعية إلى فئات أفقية وهي تتجه نحو التعاون والاندماج في علاقات تضارب وإن كان ذلك بصورة غير مستمرة : البورجوازية ضد الطبقة العاملة. كل الفئات الأخرى تحوم حول هاتين الطبقتين. لكن هذا الجزء المتبقي من المجتمع قد وقع التغافل عنه في التحاليل الماركسية وفي مقاربة التاريخ وهذا ما يفسّر اندهاش الماركسيين من اندلاع أحداث 1860 وخصوصا توحّد ألمانيا وإيطاليا ثم التوسع الاستعماري الذي عرفه النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأخيرا اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أفضت إلى القرن العشرين.

ففي مجتمع تحكمه الآليات الاوليغارشية تخضع هيكلة المجتمع لتأثيرات هرمية تنبثق من المستويات العليا غير المتجانسة والموحدة في نفس الوقت. تمثل الزبونية أساسها وقاعدتها.

إذن علينا أن نعتمد التقسيم التالي :

أوليغارشيا، طبقات متوسطة (والتي تضمّ أيضا من العمال الذين ينعتهم الماركسيون ب« المتفسّخين » وفئات أخرى مثل المزارعين) و الطبقات الرثة والمهمشة. فنمط الانصهار الاجتماعي لا يعتمد على الموقع في النظام الإنتاجي ولكن من خلال العلاقة السياسية والاجتماعية التي تسمح بالحصول على فائض الإنتاج.

فالصراع لا يشق طبقات محددة أفقيا ولكن زبائن هرمية يمكن أن تتنافس بين بعضها أو تتحلل ويبرز ذلك جليا في بعض البلدان الغربية من خلال مجتمع المراتب. فعصب الوصل في الأوليغارشيا يتمثل في الحفاظ على زبائنها الهامة في أوساط الطبقات المتوسطة وهذا ما يؤثر على مآل الأزمة الحالية ويجعله غير قابل للتحديد والتكهن به. فالأزمة الحالية تخلّ بهذا التوازن غير المستقر والمتحرك لمجتمعات لا يمكن لها أن تحافظ على تماسكها سوى بالهروب إلى الأمام نحو مزيد من التنمية وزيادة الإنتاج وهذا يعني انه لا يمكن التنبؤ بطريقة رد الفعل الجماعي.

يتميز الخطاب المهيمن والخاص بتحليل الوضعية الحالية بغموض وضبابية و خلو من كل محتوى دقيق حيث تغلب عليه الدعاية الإعلامية اليومية والتي تسعى دائما إلى الحيلولة دون الخروج بتصور واضح وقابل للتأكد من صحته. فنحن تجاه صناعة للأكاذيب التي لم تحضى بالدراسة الضرورية حيث تجسّد وسائل الدعاية وتقنيات التلاعب بالكلمات والتعابير والمعاني مخبرا وعمودا فقريا لصناعة اللهو العقيم والمنحطّ والتسلي والتلاعب بالعقول وقد عوّض ذلك وظيفة مختلف أوجه الألينة الدينية القديمة والمعتمدة سابقا في الغرب.

اعتبارا للصورة التي هيمن فيها وهم الوفرة في المجتمعات المعاصرة فانه لا يمكن لأي تحليل موضوعي أن يتجنب التعرض لهذا البعد الميتافيزيقي الملموس ويتكهّن بأشكال رد الفعل ..... لكل هذه الأسباب نرى من الضروري تحديد مفهوم النظرة الكارثية أو القيامية Apocalyptique (إعلان نهاية الأزمنة) .

فهذا التعبير يرتبط بذلك الخطاب الذي يعتبر حدوث الكارثة ضروريا لبروز « عالم جديد » (لنقل قيام الساعة) . فإعلان « نهاية الأزمنة » قد وقع استعماله للتعبير عن « حرب نهاية الأزمنة » وهو يرمز إلى اللحظة النهائية والمفصلية التي تفتح ل « مملكة الآلهة ».

إنه من الضروري اعتماد هذا التصور الكارثي للتحديد العملي لطبيعة الاتجاهات السياسية التي ينطبق عليها هذا التصور والذي يستند للترقّب الحارق والمتلهّف للكارثة بل وللعمل بجهد وعزيمة فيّاضة من أجل الإسراع بحدوث هذه اللحظة باعتبارها المنطلق والمعبر لبروز « عالم جديد » خارق للعادة.

فهذه الاتجاهات السياسية تبرز وكأنها « الحل » الجذري كما أن نشاطاتها تحول دون الوعي العقلاني والرصين بطبيعة المرحلة ومتطلباتها.

إنه من الضروري والمؤكد لنا إبراز وتوضيح هذه الصفة الخاصة بهذه القوى لا لإبراز الواقع الحالي فحسب بل وأيضا لإعطاء المعنى الحقيقي لمختلف الأيديولوجيات التي بررت الأنظمة الشمولية السابقة والتي عرفها القرن العشرون. فعلى سبيل المثال وإذا تطرقنا إلى الحركات الماركسية إجمالا لاحظنا أن القطيعة التي تفصل الاتجاهات المختلفة المكونة لها ليست بين إصلاحيين وثوريين وهذا خلافا للادعاءات البلشفية التي ما فتئت تصمّ آذاننا منذ تسعين سنة. إنها الثنائية بين برغماتيين من ناحية وكارثيين قياميين من ناحية أخرى وهذا ما يفسّر رفض بعض الاتجاهات الماركسية الخضوع للتسلط الفكري للأممية الثالثة وعدم مشاركتهم في الأعمال الإجرامية للنظام الشمولي البلشفي لكن مع تجنبها التحليل الرصين والواضح لهذه المستجدات السياسية للقرن العشرين (فالترتسكيون على سبيل المثال قد اعتبروا النظام الستاليني نظاما اشتراكيا متفسخا) .

من خلال هذه الزاوية فقط أي اعتبار الصفة الكارثية يمكن لنا فهم التقارب بين الحركات القومية الاشتراكية (النازية) والبلشفية. فالقومية الاشتراكية لها خصائص موغلة في القدم (ويبرز ذلك من خلال الحديث عن « رايش » الألف سنة). لكن الأهم من كل ذلك أن النازيين قد اعتبروا الحرب العالمية حرب نهاية الأزمنة بحيث يطغى الهدف المنشود على كل الاعتبارات الأخرى.

كما أن سيرورة البلشفية وتطورها ومسيرتها خصوصا ادعاءها بالتمكن من الهيمنة المطلقة على الكون وتحكمها اللامحدود في « الطبيعة البشرية » (الإنسان الشيوعي الكامل) لم تزد عن الدعاية النازية سوى بصلفها وريائها.

فهذان النظامان الشموليان اللذان عرفهما القرن العشرون لم يتركا لنا سوى بقايا من المجموعات الصغيرة التي مثلت متحفا لهذه الارتدادات الكارثية وينطبق ذلك على اليساريين الستالينيين واللذين يعتبرون أنفسهم امتدادا للأممية الثالثة كما ينطبق على اللذين لا زالوا يحنون ل « الرايش » الثالث وللحكم النازي. لكن بينما لم يبق من الحركة النازية سوى بضع مجموعات معزولة لطالما ساهم الإعلام في تضخيمها فان التأثير الأيديولوجي والارتدادات السلطوية العسكرية-البلشفية والستالينية لازالت آثارها عميقة بالنظر إلى انهيار المشروع السوفيتي والبلشفي عامة.

فلقد ميّزت « ثقافة » العنف والكذب والانتهازية تصرفات و« أفكار » جمهور من السياسيين والمنتظمين في جمعيات وفي أوساط الجامعة وبشكل مكثف وواسع خصوصا في البلدان اللاتينية من أوروبا (وكذلك في بلدان العالم الثالث حيث توفّر الستالينية ملاذا ومرجعا لعديدي هذه الأوساط التي تتماهى مع الدكتاتورية البلشفية وتحلم باستعادتها).

لقد جسّد عجز ما يسمى باليسار منذ أكثر من 20 سنة على القيام بتحليل موضوعي لما حدث بالاتحاد السوفييتي الشرخ الهام الذي أبرز خنوعهم الكامل للأكاذيب ورضوخهم لأحطّ شكل من الماركسية ألا وهو الستالينية .

إن إصرارنا على اعتماد تعريف هذه القوى بالكارثية والقيامية يجد تطبيقا له أيضا في الطبيعة الفعلية والحقيقية لمختلف التيارات المكمّلة الفاشية والبلشفية ونعني بها « الظلامية الدينية » وما يسمى بالإسلام السياسي عامة والسلفية والوهابية وغيرها من التيارات الدينية. فالنواة الموحدة لنظرتهم المستقبلية ولآفاق نشاطهم وأفكارهم تبدو بصفة « كارثية » تماما وكل هذه التيارات تستعدّ بطرق مختلفة وخاصة بكل واحدة ل« حرب نهاية الأزمنة » أو قيام الساعة.

فكل عملية انتحارية تفهم من طرف القائم بها أو الداعين لها أو المنبهرين بها على أنها لحظة من اللحظات التي ستقرّبهم من القمة وساعة الخلاص النهائي التي سيعرفها التاريخ لا محالة. فهي ساعة حتمية (تماما كالحتمية التاريخية للماركسية اللينينية) وما هذه القوى والاتجاهات سوى أسبابا مسخّرة مهمتها تقريب ساعة الخلاص. يمكن تفسير واقعيتهم على النحو التالي : لا يمكن توفير الشروط الضرورية لنصر نهائي إلا بتحويل العالم إلى فراغ مميت، قاتل ودموي (حيث تعتبر المسؤولية فيه راجعة للعدو). هذه هي الاتجاهات الكارثية أو القيامية.

إن الرفض المتبصّر والرّصين لمثل هذه الاتجاهات الكارثية تماما كما رفض مختلف أشكال الأنظمة الشمولية للقرن العشرين يمثل الشرط الأول لضمان بروز عالم جديد. بطبيعة الحال لا يمثّل ذلك الضمان الوحيد رغم أننا نجد أنفسنا اليوم أمام وضعية دفاعية تجاه هذه القوى.


Commentaires

Navigation

Articles de la rubrique

Soutenir par un don