إلى حدّ اليوم لم نعلم أن للرأسمالية لونا سوى ما تعلّق بالكوارث والحروب التي عاشتها البشرية في ظلّها على مدى القرون الأخيرة. فلقد عرفت الشعوب ألوانا من القمع والاضطهاد والاستعمار والنهب لكن أن يتحوّل هذا النظام إلى اللّون الأخضر فهذا ما يثير الغرابة. أجل المستقبل لللّون الأخضر وهذا هو قدرنا. لقد عرفت الرأسمالية المعاصرة كيف توظف كلّ التحرّكات والأفكار خصوصا تلك المناهضة لها وتجعل منها دافعا ومحرّكا لها. فلقد وظفت المطالب « الحرياتية » لحركة ماي 1968 وفتحت التاتشرية –الرّيغنية عهدا جديدا للنيوليبرالية والتحق جزء هام من قادة الحركات اليسارية للسنوات الستين بهذه الموجة بل لقد ساهم البعض في قيادتها وظهرت كتابات جديدة كـ« الموجة الثالثة » لليساري السابق « ألفن توفلر » وشرعت الدولة في التخلّي عن القطاعات الاجتماعية ورُوّج للخوصصة والهيكلة والتأهيل الشامل.
الرأسمالية تؤهّل ذاتها وتكتشف مزايا الفترة الأولى من نشأتها والمتميّزة باستغلال فاحش لجمهور العمّال وفئات الشعب المختلفة.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة برزت قضايا البيئة واحتلت الصدارة في اهتمامات الغالبية من المفكّرين وظهرت حركات الخضر المختلفة محذّرة من كارثة بيئية قد تأتي على الأخضر واليابس وتهدَّد الوجود البشري. تماما كما حدث بالنسبة للموجة التحريرية للسنوات الستين، اقتنع السياسيون وأصحاب القرار والجاه بأنه لا مناص من تسخير هذه الموجة وتطويعها لإطالة عمر الرأسمالية وإحيائها.
لا تقتصر الرأسمالية الخضراء على عملية « غسل أخضر » تهدف لطلاء المشروع الصناعي ومجتمع الاستهلاك بلون أخضر ولكنّها تهيء لمشروع رهيب يتجسّد في لتغيير وجه الكون والطبيعة بما في ذلك الطبيعة البشرية. الرأسمالية الخضراء هي إذن مشروع لما بعد الطبيعة وبعد الإنسانية.
في البدء راجت فكرة « التنمية المستديمة » أو المستدامة واحتلّت مكانة هامة في الخطاب الرسمي. كنه هذه الفكرة يتلخّص في الحدّ من التلويث للتمكّن من التلويث لأطول مدّة. لكنّ دعاة التنمية المستديمة يطالبون المؤسسات الصناعية بالقيام بما يسمح بحماية المحيط والحدّ من انبعاث المواد السّامة والملوّثة والحدّ من استهلاك الطاقة والبحث عن مصادر الطاقة الجديدة والمتجدّدة. بطبيعة الحال توّهم هؤلاء أنه يمكن تحقيق ذلك مع الحفاظ على أسس النظام الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي والإحتكاري. بعد تقارب وتجاذب بين هؤلاء وأصحاب القرار ها هي الرأسمالية الخضراء تتخلّى شيئا فشيئا عنهم وتصنّفهم ضمن أعداء النظام الاجتماعي. فما هو مطلوب ليس النقد والاتّهام ولكن أن تتحوّل « الإيكولوجيا » من موقع المعارض إلى المُصلح والمساند والمنقذ ولنقل « المنقذ من ظلال » الرأسمالية لكن دون التخلّي عنها أو الشك قيد أنملة في قدرتها على مواصلة المسيرة والتأقلم مع المعطيات الجديدة.
هكذا جاء زواج المتعة بين التنمية والإيكولوجيا. ما هي أسس هذا العقد الجديد؟ لوّث كي تستطيع التخلّص من التلويث واخلق أسواقا جديدة مربحة تدر آلاف المليارات وتكون في مستوى الأسواق التي اعتمدت إلى حد الآن على استغلال الإنسان للإنسان والاستغلال الفاحش للطبيعة والكون. تحتاج الرأسمالية الخضراء لأشياء قابلة للإصلاح : تخريب المحيط يصبح السوق الجديدة. تحتاج الرأسمالية الخضراء أيضا إلى مختصين في الإصلاح تماما كما نحتاج إلى ميكانيكي السيارات لإصلاح عطبها : إنه المجتمع الصناعي- العسكري- البيوتكنولوجي- المعلوماتي.... هؤلاء الخبراء ولنفل فقهاء العضر الحديث سينقذون البشرية والكون. سيعمّمون تقنيات التلاعب الاصطناعي بالمناخ وسيحيطون الأرض بغلاف دائري يحمينا من أشعة الشمس الملهبة بعد أن نكون قد قضينا على طبقة الأوزون. سينشر هؤلاء العلماء ملايين الأطنان من غبار الألمنيوم والكبريت في المحيط والجو للتخفيض من الحرارة بدرجة واحدة وسيعمّم رجال البيوتكنولوجيا زراعة الأشجار المحّورة جينيا والهاضمة لثاني أكسيد الكربون. سينشر علماءنا في الجوّ طائرات ملوّثة تنثر في الهواء كميات هائلة من المواد صغيرة الحجم والقادرة على امتصاص جزء من أشعة الشمس كما ستسمح هذه الطائرات بحقن الطبقات العليا للجوّ ببخار مكبرت وتغليف سطح المحيطات بكويرات بيضاء شبيهة بكرة التنس وتغطية أكوام الثلج بمواد بلاستيكية PVC وكما سيتمكّن علماءنا من حفر آبار عميقة ستحشر فيها كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون تماما كما يقع دفن النفايات النووية تحت الأرض. يبدو أن كلّ الظروف قد وقعت تهيئتها للشروع في هذا المخطط الجبّار : المال والمعارف التقنية والعلمية من تحوير جيني ونانوتكنولوجيا ووسائل اتصال وأنظمة خبيرة. هذا هو المشروع الجديد للرأسمالية الخضراء : من دخله فهو آمن ومن رفضه فمآله الفناء.
هكذا لكلّ معضلة حلّ ولكلّ سؤال جواب مادامت تكنولوجيا التحوير الجيني والنانو تسمح بذلك. لكن هذا التغيير لا بدّ له أن يطال الجنس البشري ذاته حتّى يتماشى الكلّ مع الكلّ ونضمن تناسقا يسمح بمواصلة المسيرة التي بدأتها الرأسمالية. جاء الإعلان عن هذا التحوّل على لسان السيد Kass Leon رئيس مجلس الأخلاق البيولوجية في حكومة بوش الابن عندما صرّح بأن ضمان السعادة المتواصلة يعني البحث عن الكمال والقدرة على الأداء بإتقان وفي هذه الحالة سيتطلب ذلك « مغادرة الجنس البشري الحالي والقطع معه » (انظر جريدة Le Devoir بتاريخ 23 فيفري 2004). ثمّ تتالت المقالات الصحفية لتبشّر بولادة جنس بشري وسيط « بَيإنساني » Transhumain وهي مرحلة نحو بلوغ الجنس ما بعد الإنساني (انظر مجلة Vivant بتاريخ 18 ماي 2004). تجنّدت أقلام الكتاب وأشباه الكتاب وأنصافهم في ظرف تميّز بتراجع الفكر والفن معا وإذا بها تتسارع للدّفاع عن هذا المنهج الجديد. نذكر من بين هؤلاء Alain Toffer وHenri Atlan (الذي دعا إلى صنع رحم اصطناعي) وFrançois Jacob وJaques Attali. في الحقيقة لقد بدأت ملامح مشروع تغيير الجنس البشري مع نشر التقرير الأمريكي المعروف بـ NBIC في سنة 2002 : (نانوتكنولوجيا، بيوتكنولوجيا، معلومات، تكنولوجيا علوم المعرفة) وذلك بطلب من الحكومة الأمريكية وبمساهمة المؤسسة الوطنية للعلوم NSF وقسم التجارة DOF.
حُدّدَ لهذا التقرير هدف تمثل في رسم صورة مستقبلية للحضارة البشرية والإنسانية من طرف خمسين عالم أمريكي ذوي صيت عالمي. جاء التقرير مفصّلا في 400 صفحة وخلص إلى أنه بفضل تناغم وتفاعل التقنيات الأربع المذكورة أي النانوتكنولوجيا والبيوتكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات وعلوم المعرفة سيصبح بالإمكان تحقيق الأوهام الجنونية من نوع جعل الإنسان والآلة متداخلين (عن طريق غرس أقراص نانوية في مخ وتحت جلد الإنسان على سبيل المثال) والقضاء على كلّ ما يعيق التواصل العام بين البشر كتعدّد اللغات والحصول على مصادر طاقة لا تنضب والتوقف عن تخريب المحيط بفضل تقنيات هضم الغازات السّامة من تحوير جيني واستعمال آلات نانوية... من بين الشخصيات المرموقة التي ساهمت في إعدادا هذا التقرير الواعد نذكر السيد Williams Sims Bainbridge وهو مختصّ في ما يعرف بالحرب الأيديولوجية وقد قام بدراسات عديدة حول الطوائف الدينية المعاصرة (Secte) وهو أيضا مختصّ في مشاريع التحكم في العواطف والمهج والميول والمعتقدات المعروف بـ« المشروع الإعصاري » (Cyclone projet) وقد صرّح دون مواربة أو تردّد :« ستتحكم العلوم والتكنولوجيا شيئا فشيئا في العالم في الوقت الذي ستتفاقم فيه الصراعات ويزداد فيه استغلال المصادر الطبيعية. إن نجاح القطاعات الجديدة والواعدة مسألة حيوية بالنسبة لمستقبل البشرية » (وهذا يذكرنا بوعد نيكسن السابق بالقضاء على كل البكتيريات) ما هي خصائص الجنس البشري الجديد « البيإنساني » (transhumain)؟ جسم جديد قوي لمواجهة حياة جديدة. يعرّف كاتب كندي في كتاب شهير Boréa نشر في سنة 2007، هذا الكائن الجديد كما يلي :« هو كائن لا ينشأ بفضل التطوّر الطبيعي ولكن بفضل التكنولوجيا. إنه كائن مختلف تماما عن الإنسان الحالي، هو مرحلة لما بعد الإنسانية ». تتجسّد المرحلة الأولى في الإنسان الرّوبوت (cyborg) تغرس في جسمه مختلف الأقراص « الذكية » وقد شرعت بعد مؤسسة Victhow وPelystin في صنع قطع غيار « بيونية » Bionique من الأعضاء والمثانات والأقراص التي تسمح بتسيير الآلات عن بعد تماما كما يمكن لهذه الآلات أن تعدّل تصرّف الإنسان عن بعد. أمّا المرحلة الثانية فتتجسّد في « الإنسان الصيدلي » المستهلك لكميات كبرى من الأدوية والمواد التي تدّعم قدراته وملكاته المعرفية والجسمية وخلق أحاسيس وتصوّرات لديه وذلك من خلال التحكّم في المواد الكيميائية الوسيطة في الجهاز العصبي. كمثال على ذلك التحكّم في أحاسيس الحبّ والشعور بالبهجة والغبطة : إنّها « هندسة العواطف » التي ستغمر الإنسان في « سعادة ذهنية » بحيث يقع التغلّب على مشاعر مثل الغيرة والحشمة والانتشاء الوجداني. أمّا المرحلة الثالثة، فستتمثل في تحقيق الخلود وقد رفع لواء هذا المشروع العالم البيولوجي Aubrey Grey من جامعة كامبردج وتبعه أفواج من رجال البيولوجيا والبيوتكنولوجيا. هكذا أصبح التقدّم في السن مرض وستسمح البيوجينية والنانوتكنولوجيا بصنع خلايا جذعيّة. كلّ عشر سنين سنقوم بإجراء فحوص واختبارات وتغييرات لجسم الإنسان ونعدّل عقارب ساعاته بحيث نعيدها إلى نقطة الصّفر. بالنسبة للعالم الأمريكي Robert Freitas والمختص في النانوتكنولوجيا سنصنع في المستقبل القريب روبوتات نغرسها في جسم الإنسان وتكون قادرة على إصلاح ما فسد نتيجة التقدّم في السن. من ناحية أخرى تقوم فرق مختصّة بالعمل على تنزيل أو إفراغ شحنة المعلومات من داخل مخ الإنسان وتسجيلها في قرص ميبّس للحاسوب. سيسمح تنزيل الوعي في عالم افتراضي بتجنب تكاثر السّكان. يقول السيد Nick Bostrom أحد روّاد هذا المشروع :« لو تمكّنا من تصوير القاعدة المفصلية لأعصاب مخ الإنسان وأدمجناها في حاسوب سيصبح بإمكاننا »النزوح« من غلافنا البيولوجي نحو عالم الأنامل الكلّي ما دمنا نعلم أننا نمتلك نسخا مهيّأة للتعويض عند الحاجة وهكذا سنتمكّن فعلا من ضمان مدّة حياة لانهائية ». أخيرا ستتجسّد المرحلة الرابعة في صنع إنسان محوّر جينيا : HMG. فبعد أن نكون قد عمّمنا البذور والنباتات والأشجار المحوّرة جينيا سننتقل إلى مرحلة جديدة هي التحوير الجيني للبشر كي يتوافق الكلّ مع الكلّ. نبتغي من كل ذلك تحسين الجنس البشري والقضاء على الأصناف المريضة والعليلة والضعيفة. لقد توّسع مجال حقوق الإنسان ليشمل المطالب في الحق في التحسين وصولا إلى مطالبة المثلين بالحق في الإنجاب. لذلك سنصنع بشرا محوّرين جينيا قادرين على تحمّل درجات حرارة عالية أو جدّ منخفضة. أخيرا يحلم البعض بخلق جنس بشري قصير القامة ويستهلك كمية محدودة من الطاقة والغذاء وهذا لمواجهة خطر تزايد السّكان. برزت في السنوات الأخيرة مجموعات ضغط تضّم علماء واقتصاديين وفلاسفة ورجال سياسة وفنانين ورجال دين وأيديولوجيين... نذكر من بين هذه المجموعات « الجمعية الدولية البيـﹿإنسانية » (World Transhumanist Association) بزعامة الفيلسوف السويدي Nick Bostrom وجمعية « الإكستروبيين » (extropiens) أي المضادين للأنتروبيا وهي تضّم أعضاء لا يؤمنون بالحدود ويرفضون المرض والتقدّم في السنّ والموت. كما أنهم يدعون البشرية إلى التخلّي عن فكرة الإله بما أن كلّ إنسان سيصبح إله في حدّ ذاته وقد حدّد هؤلاء من بين أهدافهم التأثير في أوساط الفلاسفة والفنانين واليساريين وتخليصهم من الفكر الإنسانوي السخيف. لقد أنشأ هؤلاء معهد « الإكستروبيا » بإدارة Max MORE الفيلسوف الايرلندي ومواقع إلكترونية ونشروا مجلاّت وعقدوا لقاءات « علمية ». جاء في إحدى المواقع الإلكترونية ما يلي : « هل تفضلون جينات ترثونها من أجدادكم وآبائكم أو كروموزومات (أو صبغيات) قابلة للتغيير ومحدّدة مسبّقا؟ هل تريدون أن تبقوا رجالا مدى الحياة أم تغيّروا جنسكم؟ هل تفضلون الحياة الرتيبة والانهيار العصبي على حياة البهجة والسعادة » (Transfert.net بتاريخ 23 سبتمبر 2008). بطبيعة الحال سيكون الجواب في أغلب الحالات بنعم. إذن استعدّوا للحياة الجديدة. سيتحوّل الكون إلى عبارة عن بيوت مكيفة محاطة بالأطباق والمواد الكيميائية والمواد الحامية من أشعة الشمس يسكنها أشباه بشر محوّرين جينيا مهيئين للحياة الجديدة. هذا وَهمُ ديكارت يتحقق بعد قرون : لنكون أسياد هذا الكون !
تكمن خطورة هذه الحركات في كونها قد برزت في ظروف تراجع الأيديولوجيات الشمولية التي هيمنت طيلة القرن الماضي ووجود فراغ فكري وفنّي وهي قادرة على الانتشار بفضل الدعم المالي والإعلامي.
عوضا عن الاكتفاء بفرض حدود وأتاوات وآداءات على المؤسسات الصناعية وحثّها على الحدّ من تلويث المحيط وتمكينها من حقوق التلوّث القابلة للبيع والشراء ستدمج النيوليبرالية العامل البيئي في اختياراتها ومشاريعها لتنتقل إلى مرحلة أعمق وأوسع من تلك التي صحبت ظهور شعارات من نوع « التنمية المستديمة »...
فبعد عقود من استهزاء القوى الاقتصادية الفاعلة والمهيمنة من دعاة البيئة و« الخضر » ها هم اليوم يُقسمون بالبيئة و« بالخضرة » ثم ها هم « الخضر » يقتربون من المواقف الرّسمية ولعلّ نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة ونجاح مجموعة إيكولوجيا- أوروبا بقيادة « دانيل كوهن بنديت » (الذي صفّق لغزو العراق ولكنّه كان يفضّل اختيار توقيت آخر) قد جاءت لتكرّس هذا التقارب. فمقابل تبنّي اليمين التقليدي وحتى اليسار الشعارات المنادية باحترام البيئة ها هم الخضر على لسان زعيمهم المذكور ينادون بتحرير السوق وخلق سوق للبيئة ويطالبون حتى بالتخلي عن العطلة الأسبوعية والقطع مع « الأوهام الثورجية ». لكن إلى أيّ حدّ يمكن لهذه الرأسمالية الخضراء أن تلبي المطالب الملحة للحفاظ على البيئة والحدّ من التلوّث. كلّنا يعلم أنه لا يمكن ضمان « تنمية » مستديمة. فهذه التنمية لا يمكن أن تتواصل بالطريقة الحالية وإلى ما لا حدّ له. دعاة الرأسمالية الخضراء يَعدوننا بحلول تكنولوجية وهذا يتطلب تنظيما محكما وجديدا للمجتمعات وللاقتصاد سيكون ثمنه مزيدا من التخلي عن الحرّيات. الرأسمالية الخضراء هي الإيكولوجيا على طريقة « آل غور » التي تدّعي أنه يمكن للبشرية أن تتخلّص من أزماتها البيئية والاقتصادية والمالية والاجتماعية بمجرّد تحوّل كلّ فرد منا إلى « محبّ للبيئة » كما يُعرّفها لنا الخبراء والحكّام أي إلى تلميذ نجيب ومهذّب ومتقبّل للخطاب الرّسمي وللمشاريع الآنفة الذكر والتي تنطلق من السماء والمحيط لتبلغ نواتاتنا وخلايانا وتكويننا وطرق إنجابنا. العلم والتكنولوجيا سيوفّران لنا كلّ ذلك وما علينا سوى الإذعان وما عدا ذلك يعدّ ضربا من التخلّف والرّجعيّة. لنكون « تقدّميين » وليلتحق اليسار باليمين كما عوّدنا ويعود الدّر إلى معدنه. ليصبح « البزنس » أخضر.
في الأثناء ترتفع كمية الغازات الملوّثة والمنبعثة من المصانع بنسبة 3,5 بالمائة سنويا. « الأخضر من ذهب » هذا هو الشعار الجديد لإيكولوجيا السوق. في نفس إطار المشروع الرّهيب الذي ذكرناه جاء تقرير Stern حول اقتصاد تغيير المناخ وذلك بطلب من Gordon Brown وزير الاقتصاد والمالية البريطاني في سنة 2005. خلص التقرير إلى أنه إذا ما تواصل انبعاث الغازات المتسببة في الاحتباس الحراري فسيَتراجع النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 20 بالمائة فأكثر. يكمن الحلّ في توظيف 1 بالمائة من الناتج القومي الخام للمشاريع البيئية وهذه المشاريع طبعا لا تتعارض مع الزيادة الجنونية للإنتاج والاستهلاك بل تعتمد الحلول التقنية التي تعرّضنا لها.
كلّ ما في الأمر أن الاقتصاد والصّحة والسياحة ستصبح خضراء. لكن بين الوعود وبين الحقيقة هناك بون شاسع. فلا يمكن الحفاظ على التنوع البيولوجي مع الترويج للبذور المحوّرة جينيا ولا يمكن الحدّ من انبعاث ثاني أكسيد الكربون مهما تنوّعت التقنيات وتشعّبت (نانوتكنولوجيا – تحوير الأشجار – دفن الغازات في باطن الأرض) ما دامت التجارة هي محرّك الاقتصاد العالمي ولا يمكن مقاومة تلوّث المدن والحال أنّها تتوسّع على حساب الأرياف ولا يمكن الوقاية من الأوبئة الجديدة والحال أنّ نظام الغذاء والصناعة الغذائية بالذات أصبحت المصدّر الأوّل لهذه الأوبئة.
لكن رغم كلّ هذا سوف لن يتوانى أصحاب القرار عن تنفيذ مشاريعهم الجنونية وهم يعدّون لإطار قانوني جامع سيعملون على فرضه على الأمم والشعوب كتلك القوانين التي فرضتها المنظمة العالمية للتجارة على البلدان النامية واستثنت البلدان المصنّعة (تحرير التجارة – التخلي عن دعم الدولة للزراعة...).
كالعادة سيكون أول ضحايا الرأسمالية الخضراء شعوب البلدان النامية والفئات المحرومة والمهمّشة لأنّ الهدف الأوّل لهذه الرأسمالية هو الإبقاء على النظام الاقتصادي والاجتماعي محليا ودوليا بل تدعيمه بما يخدم مصالح القوى الاقتصادية الدّولية.
Commentaires