في العصور القديمة وإلى حدّ القرن الثامن عشر لم يكن للفنّ وللأثر الفنّي موقع خاصّ ومميّز إذ كان يعتبر نشاطا شبيها بالصنائع والحرف فنقول على سبيل المثال فنّ الزخرفة وفن العمارة... فالفنّ من هذا المنظور هو أقرب منه للعمل من الفكر والتصوّر والتخمين. لم يعترف للفن بصفته خلق تمتزج فيه الحركة الفنّيّة بالتصوّر وكمجال مستقلّ عن العمل العادي إلاّ في القرون الأخيرة حيث أصبح الفنّ موضوع دراسة للفلسفة والتاريخ. ما الأثر الفنّي، وكيف نحكم عليه وبالاستناد لأيّ معايير ومقاييس؟
في الحقيقة كلّ أثر فنّي هو مطلق في حدّ ذاته أي أنّه لا يمكن الحكم له أو عليه أو تقييمه وفق مقاييس غير تلك التي تنبثق منه. فالأثر الفنّي يخلق عالمه الخاصّ. لذلك لا تجوز المقارنة بين أثر فنّي وآخر. نقول هذا أثر فنّي جميل وقد نصدر نفس الحكم على أثر فنّي آخر. هناك فنانون مبدعون عظام مثل باخ أو محمد عبد الوهاب وضعوا قطعا موسيقيّة وهناك فنانون أقلّ قيمة وشهرة ولكنّهم وضعوا ألحانا لا تقلّ جماليّة عن آثار كبار الفنانين.
أن نسمح بالمقارنة بين الآثار الفنّيّة فهذا يتطلّب منّا أن نقيّمها بنفس المقاييس ويعني أنّها تندرج ضمن عالم واحد وهذا مستحيل. فلكلّ أثر فنّي عالمه الخاصّ به. ما المقصود من أنّ الأثر الفنّي يخلق عالما خاصّا به؟
يعني ذلك أنّه لا يمكن أن نستنتج هذا العالم الخاصّ من أيّ عالم سابق. فالسمفونيّة التاسعة لبيتهوفن ليست تواصلا للسمفونيّة الثامنة كما أنّ القطعة الموسيقيّة « عزيزة » لمحمد عبد الوهاب ليست تواصلا وامتدادا لقطعة « خطوة حبيبي » أو « ليالي الجزائر ». كما أنّها ليست تكريسا مباشرا وتجسيدا مطابقا لأيّ مفهوم فلسفي أو اجتماعي أو ثقافي محدّد وإن اندرجت في وسط ثقافي خاصّ.
إنّ مجرّد بروز الأثر الفنّي للوجود وانبثاقه هو بمثابة قطع لنسيج العالم الموجود. من أين ينبع هذا الأثر؟ من « لا شيء ».هو خلق فريد وفذ Ex nihilo. منْ من الفنانين كان يعلم مسبّقا كيف سيكون أثره الفنّي حتى وإن خطّط لذلك واعتمد مادّة معرفيّة خاصّة بميدانه الفنّي. إنّها المفارقة التي ما فتئت تقضّ راحة الفلاسفة خصوصا منهم الذين اعتنوا بالفنّ كموضوع فلسفي. فالأثر الفنّي يرتبط في نفس الوقت باللاّنهائي والنهائي، بالمحدود واللاّمتناهي.
فعندما يبدع الفنان أثره الفنّي يبرز شكلا أو رسما أو قطعة موسيقيّة أو قصيدة محدودة ونهائيّة أي ما يعبّر عنه الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس بموضع أو موقع الأثر الفنّي. لكن هذا الأثر الفنّي المميّز والفريد والذي لا يمكن استخلاصه من أيّ عالم سابق يجعلنا نشهد ونرى ولو للحظة ذلك الفراغ والإبهام والفوضى، فوضى بدون قاع وبلا حدود ولا تحديد وهذا كنقيض للأثر الفنّي المحدود. فالأثر هو انفتاح على اللاّمحدود واللاّثابت واللاّمحدّد وهو في كلّ مرّة يضع بصمته ويبني ويخلق في هذا الفراغ. إذا جاز تعبير المتصوّفين نقول أنّ الأثر الفنّي هو ملامسة اللاّنهائي، هو إبحار في عالم رحب أو عالم الغيب، هو تعيين شكل محدود في عالم غير محدود، هو يجعل الشكل يرى اللاّنهائي. كلّ ذلك يفسّر الفرق بين أثر فنّي بديع وأثر عادي لا يرتقي إلى مستوى الفنّ الرفيع. وحده الفنان قادر على إبراز ذلك الفراغ واللاّنهائي والفوضى Abîme من خلال خلق أشكال. فالفنّان القدير هو ذلك الذي يخلق أشكالا وصورا قادرة على ملامسة اللاّمحدود. الفنّ هو اسم للاّمسمّى وإطلالة على المترامي وحركة لا تنتهي بين خارج وداخل، ظاهر وباطن، هو قدرة على تحريك الجمود وإنشاء المعنى من الفوضى والغموض.
هو كما يقول بعض الشعراء تلك العقدة التي تربط كلّ خيوط الحياة المتشابكة والمعقّدة. هو أثر لما ليس له أثر وشعاع في بيت خاوية يضيئنا من الدّاخل. فالإنسان بصفته كائنا زائلا وعابرا يبني على أرضية لزجة وغير واضحة المعالم ومبهمة والفن (ككل عملية خلق) يبني في هذا الفراغ ويتحدى الإبهام ويسجل الحضور في عالم الغياب.
أشكال الفنّ لا تحصى ولا تعدّ والأثر الفنّي البارع هو ذلك الأثر الذي يبقى ويصمد على مدى الأيام ويحافظ على مكانته مع مرور الزمن. هو يخلق الجديد والفذّ ولكنّه يحفظ لنا ذاكرة وعلامة مميّزة من التاريخ.
يرمينا الأثر الفنّي في المحدود والمرئي والمسموع والملموس في الوقت الذي يبحث فيه عن البناء في عالم المطلق والكوني وعالم الفوضى (Abîme). هو إذن نقيض الراحة والضمان لأنّ هذا الأخير يتنكّر لحقيقة الفوضى، حقيقة أنّنا كيانات زائلة وعابرة وأنّ أفكارنا ورؤانا وتصوّراتنا هي الأخرى محكومة بالموت. أمّا الضمان فهو يقدّم لنا تفسيرا بل غطاء يواري به هذه الفوضى ويحصرنا في إطار مسيّج إن كانت مرجعيّة متعالية أو في صورة الكائن الفائق القدرات الذي يتحدّى الموت والفوضى بل يتجاوزها ويهزمها بفضل التكنو-علوم التي ترفعه إلى أعلى المراتب وصولا إلى التحكّم الكامل في الكون أو قانونا يحكم تطور التاريخ. أمّا الفنّ فهو بخلقه للأشكال يعترف بالفوضى ويقتحمها ويبني في أرجائها في كلّ مرّة وبدون توقّف. هو يخلق الجميل التي يتناقض مع جبروت الضرورة والحتميّة.
لا ينفصل الأثر الفنّي والفنّ بصفة عامّة عن ممارسة النشاط الفنّي. فصفة الجميل التي نلحقها بالأثر الفنّي هي أساسيّة للتجربة الفنّيّة. فما نرمز به بالجميل ليس سوى صورة جاهزة تجسّد تلك التجربة بما تحتويه من مهج وتفكير وخيال وتضحيات وعذابات ونشوة وزهو وخيلاء.
هل يمثّل الأثر الفنّي واقعا ما؟ هل يجسّد شخصا أو حكاية أو صورة أو حدثا؟ ما هو موضوع الفنّ؟ هل يعبّر عن حقيقة؟ هل هو استدعاء لموضوع غائب وغير بارز للعيان؟ هل هو ترجمة للعالم المحيط بنا؟ أم هو أداة للتعبير عن أحاسيس ومشاعر وتمثّل للأشياء أم تقليد للواقع؟
إذا كان الفنّ مجرّد انطباع للواقع فما الذي يميّزه عن باقي الأنشطة. فحتى وهو يصوّر مشهدا فهو يضفي عليه سمة خاصّة ويوقع فيه بصمة خاصّة وتمثّلا يتجاوز المظهر الخارجي والبارز للشيء. فالأثر الفنّي وإن انطبع بأحاسيس ومهج الفنان فهو يعبّر عن علاقة خاصّة بينه وبين العالم وهذه العلاقة تتجسّد أساسا في عمليّة خلق وابتكار وهذا الانفتاح على الواقع هو في الحقيقة لقاء مع الفوضى واللاّمحدود واقتحام للمجهول والضبابي. ليس الفنّ علامة للواقع ولا هو دال لمدلول ولا هو صوت لمسكوت بل هو إسكان لمعنى ومفهوم ورؤية.
لا يقتصر دور الفنان في كونه مبلغا ومذكّرا ورسولا بل هو إن جاز القول « يخون » الواقع ويوحي بحقيقة أخرى غير الحقيقة العارية والجليّة وذلك بلغة وتعبير فذّ وإن اعتمد أدوات ومواد أوّليّة معهودة.
إذا كان الأثر الفنّي، كلّ أثر فنّي يخلق عالمه الفعلي والخاصّ به فهذا يعني أنّ هناك عالم آخر ممكن التحقيق وقابل للبروز غير العالم الموجود والجاهز. فكلّ أثر فنّي رفيع هو تحدّي للعالم المعهود ونقيض للركود والرتابة. فعندما أخلق أثرا فنّيّا أبرهن أنّ عالمي الذي جسّدته في هذا الأثر هو إمكان من إمكانيات لا حصر لها وأن الخلق لا يتوقف على قانون. فحتى وهو ينهل من التراث ومن الرصيد فلكي يضيف وينشأ الجديد. تدّعي الأنظمة الشموليّة التي تتأسّس على قاعدة إيديولوجيّة مغلقة أنّ هناك عالما وحيدا قابلا للوجود، عالما ضروريّا وحتميّا، ذلك العالم الذي تحدّد معالمه المرجعيّة الأيديولوجيّة التي تشكّل إطارا جامعا وشاملا للتاريخ ماضيه وحاضره ومستقبله وقوانينه. فكلّ ما وقع أو بصدد الوقوع يحدث بموجب قانون ووفق سببيّة تفسّر هذه الأحداث. لا مجال للممكن واللاّمحدّد. إنّها المعرفة المطلقة التي تنفي انبثاق الأشياء والآثار الفنّيّة والتاريخ والمجهول واللاّمحدّد واللاّمحدود. فكلّ حقيقة جديدة يمكن إدماجها وتأويلها ضمن هذا الإطار الموحّد والجامع. أي تأثير لذلك على الخلق الفنّي؟ بما أنّ كلّ أثر فنّي يخلق عالمه الخاصّ ويبيّن أنّ هناك عالما ممكن التحقيق غير ما هو متوفّر وموجود ومعهود فهو يدحض رأسا الأيديولوجيا وبالتالي يُفقد النظام السياسي المؤسَّس على قاعدة هذه الأيديولوجيا شرعيّته. فمجرّد وجوده وانبثاقه وبدون أن يصرّح علانيّة أنّه مناهض للأيديولوجيا القائمة وبدون أن يعي بذلك فهو يناقض المعهود والرّتيب والمؤسَّس.
لهذا عمدت الأنظمة الشموليّة والدكتاتوريّة باختلاف ألوانها إلى خنق الابتكار الفنّي حتى ذلك الذي يبدو « محايدا » ودون مضمون فكري أو سياسي بارز أي ذلك الذي يبدو في شكل « فنّ خالص » كالموسيقى الخالصة. ذلك هو واقع الفنّ في الاتّحاد السوفيتي السابق. فحتى الآثار الفنّيّة التي برزت في إطار ما كان يعرف بـ« الواقعيّة الاشتراكيّة » التي دعا لها جدانوف أو كما يسمّيه البعض شرطي الثقافة (وهو مسؤول الأمن والثقافة في نفس الوقت) لم تكن تقبل بـ« الفنون » إلاّ بقدر ما كانت رديئة وفاقدة للقيمة الفنّيّة لأنّه لو كانت رائعة وبديعة لخلقت عالمها الخاصّ بها والذي لا يمكن أن يندرج ضمن الإطار الإيديولوجي المهيمن.
هذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد حالة الجدب والقحط والعقم الذي أصاب الفنون في العهد السوفيتي السابق. ابحثوا عن أثر فنّي راقي أيام الحقبة السوفيتية فلن تجدوا سوى بعضا من « الفنون » الرديئة والفاقدة للقيمة. لقد كان يُنظر لكلّ أثر فنّي رائع بأنّه خطر مباشر على النظام القائم. فتخلّف الفنّ لا يعود إلى تكلّس الأجهزة وبيروقراطيّتها كما يذهب البعض بل لتعارض الفن رأسا مع الأيديولوجيا والأفكار المغلقة مهما تنوعت وتعارضت.
لكن من حسن الحظ أن التطابق والتماثل والتسلّط بصفة عامّة لم تقدر يوما على خنق الفنون. فحتى في ظلّ السلط الثيوقراطية برزت فنون ذات قيمة وجمال ولازالت آثارها قائمة تثير الإعجاب. فالتاريخ يبرز لنا فنونا راقية برزت في ظروف الكبت والتسلّط. فحتّى في ظلّ سلطة الكنيسة وفي روسيا القيصريّة وبالنسبة للعرب والمسلمين في ظلّ سلطة الملوك الأشدّ سطوة عرفت هذه المجتمعات فنونا راقية من نحت ومعمار وموسيقى. فعندما نقلب في بناء معماري عربي إسلامي (كالآثار الأندلسيّة على سبيل المثال) أو في كنيسة أو نستمع إلى موسيقى دينيّة (لقد كان للتصوّف دور هامّ في تبليغ الموسيقى العربية ...) لا نقدر سوى على الإعجاب بها والانبهار بالحبكة الفنّيّة لهذه الآثار الفنّيّة وهذا عكس ما عرفته بعض الأنظمة الشموليّة كالنظام الستاليني أو الفاشي.
يكمن السرّ في ذلك في أنّ هذه المجتمعات الدينيّة، على ما هي من انغلاق قد خصّصت مجالا وحيزا للاّنهائي والمطلق بصفة معلنة وبارزة للعيان بل أننا نجد في الموسيقى الصوفية وصفا محددا للمتعالي وقد يبدو ذلك تناقضا في حد ذاته. بطبيعة الحال ما كان للأثر الفنّي أن يصطدم بالدعائم الفكريّة والروحيّة للمجتمعات الدينيّة. لقد أضفت جماليّة هذه الآثار مزيدا من « العظمة » والقوة على هذه المجتمعات. أمّا بالنسبة للأنظمة الشموليّة والدكتاتوريّة التي عرفها القرن العشرون والتي تأسّست على قاعدة أيديولوجيّة محدّدة ومحدودة فإنّه لا مجال للاّنهائي والمطلق والرّحب واللاّمرئي واللاّمعروف مسبّقا بما أنّ الأيديولوجيا تسطّر حدودا لكلّ شيء وتدعي أنها قبضت على المجهول واللامحدود واللاّمحدد وسبرت كنهه. فكما وسبق وأن ذكرنا فإنّ كلّ أثر فنّي يوحي دائما بأنّه بالإمكان خوض مغامرة جديدة خارجة عن المألوف والمعهود.
إنّ مجتمعا يرفض كلّ ما هو غير وظيفي وأدواتي أي كلّ ما لا تحكمه الغايات والوسائل ينفي وجود الأثر الفنّي بل يرى فيه تهديدا غامضا يتربّص به.
هل يمكن للفنّ أن يكون في خدمة السياسة؟ أيّ سياسة؟ أم أنّ الفنّ بصفته تجربة فنّيّة فذّة ومستقلّة تنتفي عنه كلّ قدرة نقديّة؟ هل هناك فنّ خالص وفنّ ملتزم؟ أم أنّنا نقرّ مع الفيلسوف Shiller أنّ نقاوة التجربة الفنّيّة تضمن وعودها السياسيّة. في سنة 1936 برز صراع بين دعاة « الواقعيّة الاشتراكيّة » وفنانين واقعيّين تجريديّين وتشكيليّين. في الحقيقة كلّ الفنون قد ارتبطت بدرجة أو بأخرى بواقعها وتراثها وحيزها الثقافي والتاريخي ومجال إبداعها. أن نكون واقعيّين فهذا لا يعني أن يكون فنّنا صورة للواقع كما أنّ العلم ليس قراءة مجرّدة للواقع ومرآة له وكما أنّ ظهور المجتمعات ليست نتاجا موضوعيّا لصيرورة منطقيّة. فالفنّ وإن ارتبط بالواقع يظلّ خلقا خاصّا وانفتاحا على معاني فذّة وصور وأشكال لا ترتبط بالضرورة مع أيّ كائن قبلي. فهو كما أسلفنا إبراز لشكل محدّد من خلال ملامسة الفوضى والغموض والمجهول. لهذا يمكن للشكلانيّة والتجريد والرمزيّة وغيرها من الفنون أن تعبّر بأسلوب فنّي رائع وهذا لا يعني أنّ كلّ فنّ ادّعى هذا التوجّه أو ذاك يرتقي إلى مستوى الأثر الفنّي. فليست كلّ قصّة واقعيّة أو لوحة تشكيليّة فنّا. فالتعارض بين الواقعيّة والرّمزيّة والشكلانيّة هو تعارض زائف بل إنّ الدعوة للواقعيّة قد تخفي في طيّاتها نزوعا تسلّطيّا يريد فرض نمط « فنّي » موحّد ومحدّد وهذا ما يتعارض مع كنه الفنّ بصفته انفتاح على اللاّنهائي واللاّمحدّد.
باسم الواقعيّة تحوّل الرسم إلى مجرّد صورة مبهمة وباهتة وتحوّل المسرح إلى مجرّد خطاب مؤدلج وتحوّل التعبير الموسيقي إلى نشاز ورداءة. فالالتزام لا يجعل منّا فنانين بالضرورة. الالتزام الوحيد الجدير بالاحترام هو ذاك الالتزام بالحرّيّة (ولا أقصد بها مجرّد الحرّيّة الفردانيّة) بما في ذلك حرية الإبداع الفني.
حتى وإن بدا لنا الخلق الفنّي عملا فرديّا لكنّه في الحقيقة ينتمي للمجال الفردي-العمومي والعمومي بما أنّ لكلّ خلق فنّي بعد جماعي واجتماعي وبما أنّ قيمة الأثر الفنّي لا تنفصم عن تلقي المجتمع لهذا الأثر. فالمجتمع يساهم بصفة مباشرة في خلق هذا الأثر بتفاعله معه.
من ناحية أخرى هناك علاقة أو قرابة بين الفنّ والفلسفة والعلوم. فكلّها تسعى لأن تعطي شكلا للفوضى والغموض وذلك اللاّتحديد للوجود والكائن من خلال القدرة على خلق لانهائي لمستويات محدّدة وأشكال ومفاهيم وصيغ. أليست الفلسفة فنّ صياغة المفاهيم الفلسفيّة؟ أليست العلوم التي تتوجّه لعالم لا نشكّ في وجوده فنّ صياغة المفاهيم العلميّة؟ فالعلم كما أسلفنا ليس مرآة للواقع.
كذلك فإنّ خلق الحضارات والثقافات هو ضرب من الفنّ وإن أحالت المجتمعات التقليديّة هذا الخلق لقوى خفيّة. فهذه الحياة مسرحا للفنون : فنّ صياغة المؤسّسات وتجاوزها. لقد فصل أفلاطون الفنون عن الفلسفة وقابل بينهما بل أنّه اعتبر الفنّ خطرا على الفلسفة بما أنّه يخدع ويصوّر الظواهر دون الحقائق ويستدعي الحواس بينما الفلسفة تستدعي العقل والمنطق وتسعى لاكتشاف الحقائق الكامنة.
لكن هذا لم يمنع من أنّ الفلسفة قد اعتنت بالفنّ كموضوع لبحثها عن حقيقة الصورة الفنّيّة إلى درجة أنّ بعض الفلاسفة نادوا بالاستعاضة عن الفلسفة بالفنّ كفيختة. في الحقيقة فإنّ هذا التمشّي هو ذاته فلسفي فحتى من يدعو لاستبدال الفلسفة بالفن فهو يقف موقفا فلسفيا. هكذا فكلّما أردنا تجاوز التعارض الظاهري بين الفلسفة والفنّ انصهر الأوّل في الثاني. فالفلسفة بحاجة للفنّ والعكس صحيح.
فالنقد الذي وجّهه أفلاطون للفنّ بصفته عاجزا عن ملامسة الحقيقة هو جوهره الذي وجّهه الفلاسفة الرومنطيقيون الذين عابوا على الفلاسفة عجزها عن الإحاطة بالحقيقة.
أيّ معنى وأيّ مستقبل للفنّ المعاصر؟ هل لازال الفنّ يستجيب لكلّ الخصائص التي ذكرناها؟
يمكن القول أنّ الفنّ قد عرف نهضة خصوصا في الفترة الفاصلة بين نهاية القرن الثامن عشر وأواسط القرن العشرين. فلقد تميّزت هذه الفترة بتفاعل حيّ بين الفنان والجمهور الذي كان خلاّقا وساهم في هذه النهضة. لكن وإثر الحرب العالميّة الثانية ومع بروز ما يعرف بصناعة الثقافة وهيمنة المواد السريعة التآكل Jetables وبروز الإنتاج الجماعي والضخم (en série) وبوْضعة الحياة وهيمنة مجتمع الاستهلاك فقد الفنّ شيئا فشيئا من خاصّياته بصفته إطلالة على اللاّمحدود واللاّمحدّد ونافذة على الفوضى والغموض والمبهم لينصهر في عالم الأشياء المستهلكة واحتلّت المواد الأوّليّة للفنّ الصدارة على حساب المعنى والمحتوى. في نفس الوقت الذي تراجعت فيه الفنون عامّة وذابت في البضاعة اليوميّة برزت نزعة في أوساط الفنّانين تقدّس « الفنان » وتنفخ في صورته فإذا به ذلك النجم أو السيّد أو الملك الخارج عن المكان والزمان والمجتمع والمترفّع على العامّة. حتى ما كان يعرف برواد الفنّ الطلائعي والذين تميّزوا بنقدهم لمجتمع الاستهلاك انصهروا في المجتمع السلعي. فقد الإنتاج الفنّي من جماليّته وأصبح ضربا من العبث وأصبحت الحرّيّة الفرديّة حرّيّة إنتاج كلّ شيء غير الفنّ. من ناحية أخرى انفصل الفنّ عن كلّ أثر بحيث لم يعد الماضي الفنّي حاضرا في الأذهان وغابت كلّ الأطر الجماليّة التي تراكمت عبر القرون وهذا جليّ في أشكال التعبير المختلفة كالنحت والرسم والموسيقى (لم يقتصر هذا التراجع على المجتمعات الغربيّة. فهذه الموسيقى العربيّة والشرقيّة تتراجع وتصبح الألحان والإيقاعات متشابهة بينما تلاشت المقامات الموسيقيّة العربيّة أو تكاد فلم نعد نسمع قطعا موسيقيّة في مقامات كالراست والسيكة وغيرها من أشكال التعبير الموسيقي العربي والشرقي). شمل انهيار الفنّ كلّ قطاعاته وميادينه. موت الفنّ والثقافة مرتبط بموت الذاكرة الفنّيّة وبضياع المعنى وتذرّر المجتمع وهيمنة وسائل الدّعاية وغياب الجمهور المتقبّل والفاعل والخلاّق. لقد فقد الفنّ المعاصر كلّ علاقة بالمطلق واللاّمحدود واللاّمحدّد واللاّمعهود (a-sensé) و« اللاّمعقول ». فالفنّ يموت إذا كفّ أن يكون ولادة للمعاني والصور وحالة من التخمّر التي تسمح بابتكار الأشكال الجديدة. عمّ التطابق والتماثل والتقليد وتحوّلت الفردانيّة والحرّيّة المطلقة المزعومة في مجال الفنّ إلى رداءة عامّة وشاملة.
استعيض عن الجمهور الخلاّق بذلك المستهلك الذي يشبع « لذّته » ورغبته في حالة من التقبّل الظرفي والآني والسريع والخالي من كلّ روح إبداعيّة وفعل ونقد. أصبح « الفنّ » يخضع للموضة والدّعاية و« مجمّعي » الآثار الفنّيّة ونزعة البروز والنخبويّة والنجوميّة والحذلقة. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير إعادة اكتشاف جزء هام من الجمهور لما أصبح يُعرف بـ« الفنّ الجميل » أو روائع « الزمن الجميل » كعملية رد فعل على الرداءة. لكن هذا الرد الذي تجسد في الحنين للتراث الفني الأصيل لم تصحبه نهضة فنية تستند لهذا التراث لتبدع الجديد.
لقد استعيض عن الفنّ بمصطلح « المنتوج الثقافي »، منتوج يُعرض ويُشاهد ويباع ويتحلّل ويهترئ بصفته إنتاجا سريع التآكل Jetables ولم يعد « الفنّ » يوحي لأيّ خلق أو ابتكار. في الأثناء تحوّلت المتاحف إلى مساحات تجاريّة واسعة (بل أنّ هناك متاحف كبيرة في أوروبا على ملك أصحاب المتاجر والمساحات التجاريّة supermarchés). بطبيعة الحال ارتبط ذلك بما سماه المفكر كاستورياديس بضياع المعاني الجامعة أو صعود اللامعنى La montée de l’insignifiance لا يمكن للفنّ أن يستعيد دوره وحيويّته إلاّ متى فكّ أغلاله التي وثقته بها البضاعة ومجتمع الاستهلاك واقتحم من جديد المطلق واللاّمعهود واللاّمحدود ليصيغ من جديد ويخلق حيزه المميّز ويؤسّس للجميل والقيّم. بطبيعة الحال لا ينفصم ذلك عن حركة المجتمع إجمالا : فكرا واجتماعا وثقافة.
فلقد عرفت المجتمعات الغربيّة حالة من الركود الثقافي وذلك على مدى ثلاث عقود أو أكثر وقد ساهمت هيمنة مجتمع الاستهلاك وأزمة الأيديولوجيات إلى حدّ كبير في هذا الرّكود. كذلك هي حال مجتمعاتنا العربية التي عرفت انتعاشة فنية خلال حقبة الخمسينيات والستينيات (انتعشت الرومنسية الفنية العربية خلال هذه الفترة وظهرت روائع غذتها حالة النشوة العارمة التي امتلكت بالمجتمعات والتي كان من بين أسبابها ذلك الوهج الوقاد الذي واكب تحقيق هذه الشعوب انتصارات على الاستعمار).
إن انتصار اللامعنى وانحدار الفن ليس مسألة نهائية ولا هو بقدر محتوم. فإلى جانب هذه التراجع بدأت تظهر بوادر نهضة فكريّة وسياسيّة وفنّيّة أخذت تشقّ طريقها خصوصا في أوروبا و أمريكا اللاتينية وقد تحمل لنا السنون القادمة مفاجآت وأحداث قد يكون لها الأثر العميق على حركة الفنون.
سمير بسباس
*****
المراجع : Cornélius Castoriadis : La musique abolit le monde in Fenêtre sur le chaos, Seuil, janvier 2007
Philippe Nemo : Les philosophes et la musique, Contrepoint philosophique, mars, 2005.
Raymonde Moulin : De la valeur de l’art, Paris, Flammarion, 1995
Commentaires