(اذا بقـي مـن « ثورة » أكتوبر 1917 - (2/2

Que reste-t-il de la révolution d’Octobre ? Par سمير بسباس (langue arabe)
dimanche 25 juillet 2010
par  LieuxCommuns

(... / ...)

ماذا بقـي مـن « ثورة » أكتوبر 1917 سمير بسباس

V – البلاشفـة والمسألـة الزراعيّـة : إلى حدّ أكتوبر 1917 ولعقود تلته كان للقضيّة الزراعية دور محدّد في التّطوّر الاقتصادي والاجتماعي لروسيا. فمن بين 174 مليون مواطنا روسيا لم يمثل سكان المدن سوى 24 مليون مواطنا وكان 72 بالمائة من العمّال ينشطون في القطاع الزراعي وكان مطلب المزارعين هو الأرض والحريّة وهو شعار لم يبدعه لينين والبلاشفة بل رفعه المزارعون من قبله. في الحقيقة لقد كانت المسألة الزراعية تشكّل محور الثورات سواء تلك التي عرفتها روسيا أو إسبانيا وغيرها من البلدان. ألّهت الماركسية البروليتاريا وجعلت منها طبقة وهمية ذات دور تاريخي يتلخّص في قيادة البشرية وتخليصها من هيمنة الرأسمالية بينما كانت ترى في المزارعين الحليف البرجوازي الصغير. كان البلاشفة يتوجسون ريبة من المزارعين وقد جعلوا منهم أعداء الثورة بعدما تظاهروا بتبنّي مطالبهم وشعاراتهم. لكن المزارعين كانوا بالمرصاد للبلاشفة إذ أحصى البوليس السياسي المعروف بتشيكا 128 انتفاضة للمزارعين في سنة 1921 لوحدها علما بأن هذه السنة قد عرفت موت ما يقارب 5 مليون و200 ألف مزارعا جوعا وبردا. على القطاع الزراعي توفير الفائض من الإنتاج لتوظيفه في الصّناعة وذلك تماشيا مع السيرورة التاريخية الطبيعية التي عرفتها جملة البلدان الرأسمالية : تصنيع الفلاحة، زيادة الإنتاج، توفير اليد العاملة غير المختصّة للعمل في المدن..... باسم الاشتراكية المزعومة وقع فرض التعاضد على المزارعين بدعوى إلغاء السوق والحال أنّ السوق سابقة للرأسمالية (الأسواق المحلية والجهوية وحتى الأسواق بين البلدان) وليست بالضرورة رديفا لها (وهذه مسألة يمكن التعرّض لها في مجال آخر). الهدف من كلّ ذلك هو بسط نفوذ الدولة على القطاع الزّراعي وامتصاصه حتى النّخاع لتوفير التمويل الضروري للتّصنيع (ولقد سارت عديد بلدان العالم الثالث على هذا النهج). لتحقيق النتائج المرجوة، كان لا بدّ من فرض استغلال فاحش للتربة وذلك من خلال استعمال كميات هائلة من الأسمدة والمبيدات وتوجيه الفلاحة نحو التصدير لتوفير الفائض (زراعات القطن) وإخضاع الرّيف للمدينة. في مرحلة ما يُعرف بـ« شيوعية الحرب » حاول لينين بسط نفوذه على المحصول الزراعي. تحوّل المزارع من عامل لدى الإقطاعيين والفلاحين الكبار إلى عبد مقنّع لدى الدولة. واجه البلاشفة حركة المزارعين الذين رفضوا مصادرة البلاشفة لمحصولهم ووجهوا للمزارعين تهمة التواطؤ مع أعداء الثورة وكانت النتيجة موت الملايين من المزارعين. تراجع لينين بصفة مؤقتة عن هذه السياسة بعد مجزرة كرونشتاد وبعد أن خيّم شبح المجاعة على البلاد. ثمّ جاء ستالين ليفرض تعميم التعاضد (1928-1933) وكانت النتيجة وفاة ما لا يقل عن 20 مليون مزارعا قضوا برصاص البلاشفة أو جوعا. في سنة 1931 وبعد إقرار السياسة الزراعية الجديدة وقعت مصادرة 41.5 بالمائة من المحصول الزراعي للأوكرانيين و47 بالمائة من مزارع القوقاز الشمالية و39.5 بالمائة من المحصول الزراعي لكازاخستان. من المعلوم أنه يخصص 15 بمائة من المحصول للبذور و25 بالمائة للماشية. في نوفمبر 1932 توجّه أحد المسؤولين الجهويين برسالة إلى مولوتوف ينبّهه فيها إلى حاجيات المزارعين لتأمين غذاء عائلاتهم وقد أجابه هذا الأخير بأنّ مصلحة الحزب والبلاشفة تأتي في المقام الأول قبل مصلحة المزارعين. كلّما أخفى المزارعون جزء من المحصول إلا واتهموا بتخريب الثورة ومعاداتها. في 7 أوت 1932 صدر قانون يجرّم كل عمليّة سرقة أو تخريب للملكية الاشتراكية وكنتيجة لهذا القرار وقع إيقاف 125 ألف مواطنا أعدم منهم 5400 مزارعا. في 22 جانفي 1933 منع ستالين نزوح المزارعين الأوكرانيين وسكان قوقاز الشمالية (بسبب المجاعة). في سنة 1933 صدّرت الحكومة 18 مليون قنطارا من القمح لتوفير المال الضروري للتصنيع. النتيجة هي وفاة 6 مليون أوكراني ومليون مواطنا كازاخستاني جوعا. كان ستالين يدفع بعشرات الآلاف من الشباب البلشفي والمسؤولين السياسيين والبوليس السياسي إلى الأرياف لإجبار المزارعين على قبول التعاضد والانضمام للتعاونية. وقع تكوين ملف خاصّ لكل مزارع بمصالح وزارة الداخلية. اقترنت هذه العملية في البداية بإيقاف مليوني مزارع زج بهم في محتشدات العمل الإجباري وقد قضى معظمهم. ردّ المزارعون على محاولات فرض التعاضد بالتخلّص من المحصول الزراعي والماشية التي وقع ذبح أكثر من نصفها مع بداية فترة التعاضد القسري. في سنة 1930 انتمى 31 بالمائة من المزارعين إلى التعاونيات ومع حلول 1935 وقع فرض التعاضد على 98 بالمائة من المزارعين. عرفت سنة 1932-1933 مجاعة طالت أساسا المزارعين وكانت ناتجة عن السياسات المنتهجة في ميدان الزراعة من ذلك مصادرة جزء هام من المحصول الزراعي لصالح الدولة. كان ستالين يشتري المواد الزراعية بأسعار تبلغ 5 إلى 10 بالمائة من سعر السوق. بالمقابل سُمح للمزارعين بملك ربع هكتار وقد وفّرت هذه المساحات الصغيرة ربع إنتاج روسيا. ابتداء من سنة 1930 بدأت عملية التصنيع السريع للزراعة وتحوّل مشهد الأرياف رأسا على عقب. لتبرير الفشل الذّريع، كان ستالين يتهم الإداريين والمهندسين المشرفين على المشاريع الزراعية (وحتّى الصناعية) وشن حملة مشبوهة وكاذبة ضدّ البيروقراطية وقد ذهب ضحيتها الآلاف دون ذنب اقترفوه. في سنة 1935 ظهرت الستاخانوفية نسبة للعامل stakhanov الذي قيل عنه أنّه كان ينتج كمية من الفحم تبلغ 14 ضعفا المعدّل العام للإنتاج. رغم كلّ الدّعاية التي كانت تحاط بالمشاريع الزراعيّة في الاتحاد السوفيتي السابق وبقية البلدان المنظومة السوفيتية فإنّ الحقيقة الدامغة لم تعد خافية خصوصا بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي. فهناك عوامل مشتركة تجمع بين فلاحة هذه البلدان وفلاحة البلدان الغربية. فلقد اعتمدت السياسة الزراعية على التصنيع المشط والاستعاضة عن البذور المحلية بالبذور المهجّنة كما وقع اللّجوء إلى الأسمدة والمبيدات بكميات هائلة. لكن ما زاد في تعميق أزمة الفلاحة السوفيتية هو طريقة تنظيم المجال الزراعي وفرض التعاضد القسري وإخضاع القطاع الفلاحي لضروريات الصّناعة. لقد وقع فرض الاختيارات الزراعيّة على الفلاّحين وأهملت المعارف العملية للمزارعين كما تكفّلت حفنة من الخبراء بتوجيه القطاع الفلاحي وفرض تصوّراتهم من ذلك أن أصبح « عالم » النبات Lyssenko المرجع الأوّل لهذه السياسة. كما اتّسمت السياسة الزراعية عامة بالقرارات البيروقراطية والاعتباطية. علاوة على كلّ ذلك فقد عمدت السلطة إلى ابتزاز الفلاّحين وفرضت عليهم تقديم جزء من محصولهم الزراعي للدولة. في عديد البلدان المعسكر السوفيتي السابق تراجعت خصوبة الأرض وعرفت الانجراف كما تراجع التنوّع البيولوجي وتلاشت معارف واندثرت بذور ونباتات. للّحاق بالبلدان الغربيّة عمدت القيادة السوفييتيّة إلى الرّفع في الإنتاج الحيواني كما وقعت تهيئة مساحات شاسعة من الغابات والأراضي الخاصّة بالرعي في كازاخستان وسيبيريا للزراعة (40 مليون هكتارا). رفعت القيادة السوفيتية شعار : « لنلحق بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ». فعلى امتداد 30 سنة سُمح لـ Lyssenko وهو عالم نبات بإدارة السياسة الزراعيّة. من المعلوم أنّ Lyssenko تنكّر لقوانين الوراثة لـMendel واعتبرها مناقضة للمادّية الجدليّة وفرض غلق كلّ الكلّيّات والمخابر التي تدرّس علم الوراثة وروّج لفكرة تعدّي الخاصّيات المكتسبة Transmission des caractères acquis وهو ما فنّدته البحوث العلميّة بل وعمد إلى تزوير نتائج التجارب المخبريّة للتدليل على رأيه. حُظي Lyssenko برعاية خاصّة من ستالين وكُلّف بانتقاء بذور ذات مردوديّة عالية. تماشيا مع النظريّة القائلة بأنّ كلّ تغيير كمّي يؤدّي إلى تغيير كيفي اعتبر Lyssenko أنّه كلّما غيّرنا المناخ إلاّ وحصل تغيير جذري في طبيعة الإنتاج وكان يصرّح علنيّة أنّه « إذا زرعنا القمح في مناخ خاصّ يمكن أن يعطينا شيلما (Seigle) ». كما أعدّ مشروعا خاصّا يقضي بإحداث تغيير على الأبقار بتمطيطها لتوفّر كمّيّات وافرة من اللّحوم. كان ستالين يدعو إلى الرّفع من إنتاجيّة الزراعات الخاصّة بفصل الرّبيع على حساب زراعات فصل الشتاء وهذا بتحويل زراعات الجنوب إلى الشمال. منيت هذه التجارب بالفشل الذريع ولكن ذلك لم يمنع Lyssenko من الاحتفاظ بمركزه. في بداية الستينات شرعت القيادة السوفيتية في تنفيذ برنامج لطالما خامر ستالين ألا وهو مشروع بحيرة آرال. كارثة بحر آرال هي مثال بارز للتخريب البيئي الناتج عن الاختيارات الاعتباطيّة والبيروقراطيّة. فلقد قرّرت القيادة السوفيتية تحويل مجاري المياه التي تصبّ في بحر آرال لريّ المناطق القاحلة بآسيا الوسطى وزرعها قطنا. هكذا توسّعت المساحات المرويّة وبلغت 7 ملايين هكتارا بينما بلغت كمّيّة المياه المسحوبة 120 مليونا مكعّبا خصّصت أساسا للرّيّ. وقع استغلال الرّوافد الصغيرة إلى درجة أنّها لم تعد تغذّي النهرين الرّئيسيين الذين يصبّان في البحيرة وأُهملت القنوات وشبكات الصّرف. ارتفعت نسبة ملوحة المياه بـ40% كما وقع اللّجوء إلى كمّيّات مهولة من المبيدات والأسمدة وأدّى ذلك إلى تلوّث المياه السطحيّة والجوفيّة. عرفت بحيرة آرال حالة من الجفاف وانخفض مستواها من 53 مترا فوق سطح البحر إلى 36 مترا وتراجعت مساحتها بنسبة 50% وارتفعت نسبة المعادن فيها فمات الجزء الأعظم من الأسماك. من المعلوم أنّ بحيرة آرال كانت مجالا لصيد السمك الذي بلغ 40 ألف طنّا في السنة. تحوّلت رابع أكبر بحيرة في العالم إلى بحيرتين (الأولى شماليّة والثانية جنوبيّة) وزالت مائدة مائية تبلغ مساحتها 68 ألف كيلو متر مربّعا أي مرّتيْن مساحة بلجيكا. تغيّر المناخ المحيط بالبحيرة إلى مناخ شبه قارّي (صيف حار وأقصر وشتاء قارس دون ثلوج) وتلوّثت المياه الصالحة للشراب بمختلف المعادن والمواد الكيميائيّة وعرفت المنطقة عواصف رمليّة مالحة أتت على ما تبقّى من زراعات القطن. اليوم تعرف المنطقة معدّلات وفيات الأطفال الأعلى في العالم. كما لوحظت حالات إجهاض وتشوهات خلقية وإصابات بمختلف الإعاقات وكلّ ذلك ناتج عن تلوث مياه الشرب بالمبيدات والأسمدة والمعادن السامة. كما عرفت المنطقة ارتفاعا ملحوظا في نسبة الإصابة بمرض السل. كارثة بحر آرال وما أدّت له من تصحّر وخراب طال البحيرة والأراضي الزراعيّة والماء هي أعظم كارثة بيئيّة عرفها القرن العشرون. البحث عن زيادة الإنتاج وليّ عنق الطبيعة وعدم احترام التوازن البيئي الذي نلحظه في الفلاحة الصناعيّة الغربيّة خيار مشترك للمعسكرين الشرقي والغربي ولكن ما زاد الطين بلّة بالنسبة لحالة بحر آرال أنّ القرار كان ينبع من بعض الأفراد الذين توهّموا أنّ حقيقتهم وأحكامهم أقوى من قوانين الطبيعة وأنّه بإمكانهم إخضاعها لتصوّراتهم وبرامجهم. لقد استعيض عن المزارعين بسلطة حفنة من الخبراء وغُيّب المواطن من القرار واعتبر كلّ مخالف للرأي مناهضا وعدوّا والنتيجة هي إلحاق الضرر بملايين المزارعين. اليوم لا يوجد أي نموذج فعّال لحل معضلة بحيرة آرال. كارثة بحر آرال تذكّرنا أيضا بكارثة الأهوار في العراق والتي تسبّبت فيها بالأخصّ السدود الكبرى التي أقيمت على نهري دجلة والفرات.

VI حول السياسة الدولية للبلاشفة يمكن الجزم أن البلاشفة قد غلّبوا مصلحة الأمّة الروسيّة في كل مواقفهم واختيارهم وهذا تماما عكس ما ادّعوه من روح أممية وتضامن لا مشروط مع نضال الشعوب. من الغريب والمضحك في آن واحد أنه بقدر ما كان انقلاب أكتوبر 1917 مغامرة وبعد أن دعا لينين الأحزاب الشيوعية في العالم إلى نصرة ثورة أكتوبر والاستعداد والتأهّب للثورة العالمية وبعد أن تيقّن أن ذلك أمر مستحيل، عمل بالتعاون مع تروتسكي على توجيه الحركة العمّالية في مسار إصلاحي وأوعز للعمّال الألمان المنتفضين في سنة 1921 بالتّراجع عن « مغامرتهم ». صرّح تروتسكي في سنة 1923 : « بطبيعة الحال يهمّنا انتصار الطبقة العاملة ولكن ليس من مصلحتنا أن نحصل على الخراب من البورجوازية. نحن نطمح اليوم للسّلم ». يعلـّق Paul Mattick على ذلك بقوله : « عشر سنين مضت على هذا التصريح ولم تحرّك الأممية ساكنا ولم تواجه إفتكاك هتلر للسلطة.. مثل هذه الخيانة أمر شائع وعادي بالنسبة لتروتسكي ولينين. فمن بين شعارات ومبادئ تروتسكي أنه لا يهمّ ما تقوم به، المهمّ من يقوم به... أمّا ستالين فلقد تصرّف تجاه الفاشية الألمانية كتلميذ للينيين. فلقد عقد تحالفا مع حكومة تركيا وساندها سياسيا واقتصاديا في الوقت الذي كان فيه الشيوعيون الأتراك يعانون ويلات القمع الوحشي الذي فاق أساليب القمع التي كان يمارسها هتلر. » أبرم ستالين اتفاقا مشبوها مع الفاشية الألمانية باسم التكتيك وقد كان يعتقد أن ذلك سيدفع عنه شرّ الفاشية ووضع حلفاءه في البلدان الصناعية في موقف حرج وعقد اتفاقا في يالطا لتقنين تقاسم مناطق النفوذ مع الحلفاء بعد سقوط الفاشية. أمّا شعارات حق الأمم في تقرير المصير فكانت غطاء لدعم القوى المساندة للاتحاد السوفييتي في الوقت الذي خضعت فيه القوميات إلى الاضطهاد.

V العلم البروليتاري سوف لن نتعرّض إلى الأسس الفكرية للبلشفية في مجال العلوم فلقد تكفّلت الأحداث العلمية وقوانين الفيزياء والوراثة وغيرها بدحض أفكار أنغلز الواردة في كتابة « جدلية الطبيعة » ونظرية المعرفة لدى لينين في كتابه « المادية ومذهب النقد التجريبي » ولم يعد من يجرأ على الدّفاع عنها. لكن ماذا عن علم بروليتاري في السلطة؟ ماذا لو هيمنت بيروقراطية دموية على قطاع البحث العلمي تماما كما هو الحال في مجالات الأدب والفن؟ ستنتج علماء مزعومين مثل Bogdanov وLyssenko كما أنتجت جدانوف في ميدان الأدب (الملقّب ببوليس الثقافة). في الاتحاد السوفيتي، وإن لم تعرف اليوجنية Eugénisme نفس المصير الذي عرفته في البلدان الغربية إلا أنها اتخذت أشكالا أخرى من خلال التمييز العرقي والقومي أو تحت غطاء مقاومة المعارضين للثورة. نذكر أن Eugénisme كلمة يونانية مشتقة من كلمتين : Euوتعني الحسن و gennaân وتعني النشء ونجد كلمة تعادلها في العربية : جنين. المعنى إذن هو تحسين النشء أو النسل وهي تدعو إلى انتقاء اجتماعي عرقي يكون تطبيقا لقانون الانتقاء الطبيعي على المجتمع ولهذا يستعمل البعض السوسيوبيولوجيا لكي يعبّروا بها عن اليوجنية. منذ الثلاثينات دعا الحزب البلشفي إلى القيام بتجارب يوجنية على « الأعداء الطبقيين » للنظام البلشفي وهو يعتبرهم « أفرادا منحطين ومتخلفين أخلاقيا وجسميا » (انظر كتابات Paramanov ومجلّة Stampa بتاريخ 26 أوت 1992 : غوركي أكثر جنونا من كارال). لقد تكفّل ستالين بذلك حيث طُبّقت هذه الممارسات على أعداد هامّة من المساجين السياسيين في سجون سيبيريا وأُجريت عليهم أبشع التجارب وعوملوا كفئران مختبر. لا يفوتنا أيضا أن نذكّر بمشروع Alexander Bougdanov الطبيب البلشفي والملقب بـ « خالق الإله » ومؤسس المعهد المركزي لنقل الدم بموسكو سنة 1926 وهذا المعهد يُعدّ الوحيد من نوعه في العالم. كان Bougdanov وبدعم من القادة السوفيات يريد تطعيم « الاشتراكية الاجتماعية » بـ« اشتراكية فيزيولوجية » (Collectivisme physiologique) من خلال ما يسمّيه بـ« تقريب المستويات القصوى وتعويض النقائص ». يرى Bougdanov أنه لابد من حقن السكان بدم شبابي (متأتّي من الجيل الشاب) وذلك للحفاظ على حيوية المجتمع وتهيئة أحسن الظروف لمزاحمة المجتمعات الرأسمالية وضمان حياة أطول للشعب السوفيتي. كان لديه ولدى غالبية القادة السوفيات هوس الحفاظ على الجيل الأوّل من القادة البلاشفة ومن هنا جاءت فكرة Bougdanov حول تحنيط جثّة لينين في انتظار ثورة علمية قد تُمكّنه من أن يُبعث من جديد وكذلك الحال بالنسبة لكبار القادة. فهؤلاء يمثلون في نظره ونظر الغالبية من البلاشفة جنسا خاصا وفئة مميّزة تختصّ بالشجاعة والذكاء وسعة الفكر والقدرة على القيادة والزعامة. نِِظرة السوفيات للجسد تخفي هي الأخرى بصمات يوجنية لا ريب فيها. فقد تجلّى ذلك إثر الانتصارات التي حقّقها بعض الرياضيين الرّوس في المسابقات الدولية وقد رأوا في ذلك « بروز جنس جديد بفضل محاسن النظام الاجتماعي ». كما كان يُروّج للعامل المثالي ذي البنية القوّية والقادر على إنتاج يفوق مرّات إنتاج العامل في البلدان الرأسمالية : الستاخانوفية Stakhanovisme . كما أجريت بحوث حول التقدم في السن والموت. في بداية السنوات العشرين كان تدريس اليوجنية يحظى بعناية من طرف العلماء الروس وقد حدّد له هدف « سامي » : « خلق أجيال جديدة وإنسان سامي ومتفوق يتحكم في الطبيعة ويخلق الحياة من حوله ». « اليوجنية هي دين المستقبل وهي تنتظر رسلها » (انظر Russkÿ eveniceskÿ عدد 1 -1992 صفحة 27). في سنة 1925 نشرت في ليننغراد ترجمة لكتاب العالم النمساوي الإحيائي Paul Kammerer بعنوان « الموت والخلود » وهو من دعاة اليوجنية ويعتقد أن « المراحل الثورية » تفرز أناسا ذوي شخصية فذة ومميزة وقد دعا إلى خلق إنسان فائق القدرات وكامل الأوصاف. في سنة 1923 ما يلي : Alexandre Nagornyj صرح و قوة وصلابة وديمومة وسعادة« . »مع مرور السنين سيحل جيل جديد أكثر نقاوة إذن، يمكن القول بأن اليوجنية قد لاقت صدى حتى في الاتحاد السوفييتي. Antone Kozlov, La perception de la mort dans la culture russe au tournant du XXème siècle, Cahiers slaves n°3, Université Paris IV Sorbonne

في سنة 1923 كان بوغدانوف يبحث عن طريقة « علمية » لتحسين القدرات الجسمية للإنسان واستعادة شبابه بفضل نقل دم مواطن شاب. فلقد خضع هو ذاته لهذه التجربة ولاحظ الانعكاسات الايجابيّة من ذلك تحسّن القدرة على النّظر وتراجع سقوط الشعر. في رسالة وجّهها صديقه Krassine Léonid لزوجته أكّد لها أن بوغدانوف يبدو أكثر شبابا وقوّة وكأنّه قد ربح عشرين سنة. دعّمت أكاديمية الطب بموسكو تجارب بوغدانوف وبعثت مركز نقل الدّم في سنة 1926. في مارس 1928 وفي عمر يناهز 55 سنة حاول بوغدانوف استبدال دمه بدم شاب لكنّه دخل في حالة إغماء دامت 15 يوما مات على إثرها. أقام الحزب البلشفي حفلا تأبينيا لبوغدانوف وحيّى فيه شجاعته وإخلاصه للثورة واعتبر بوخارين وفاته بأنّها « وفاة تراجيديّة لشخص عظيم ». في نفس اتجاه البحث عن القوّة وخلق فرد فائق القدرات وقع اقتلاع مخ لينين وطلب الحزب البلشفي من عالم الأعصاب Oskar vogt دراسة مخ لينين وتحديد الخلايا المسؤولة عن ذكائه. هكذا وقع بعث معهد الأعصاب لهذه الغاية. نشر Oskar Vogt مقالا في سنة 1929 يبيّن فيه أن بعض الخلايا العصبية لمخّ لينين وبالخصوص في الطبقة الثالثة لغلاف المخّ عريضة. نذكّر بأنّ لينين كان يرى أنه على الحزب أن يعود للخبراء والمختصين في المجال العلمي. أمّا ستالين، فلقد كان يردّد :« وحدها الكوادر تقرّر، وحدهم الخبراء يقرّرون ». لكن لم يمنع ذلك الحزب من إبعاد وتصفية عديد الباحثين « البورجوازيين » الذين لا تتّفق آرائهم واستنتاجاتهم العلمية مع قرارات الحزب ومع روح المادية الجدلية. Lyssenko هو أحد الخبراء الذين لقوا الدّعم اللاّمشروط من الحزب البلشفي. فلقد أوهم Lyssenko (وهو تقني زراعي) الجميع بأنّه بمقدوره الرّفع من الإنتاج الزراعي أضعافا بفضل تقنية خاصّة. لقد كان من الواضح أن روسيا مصنّعة لا يمكن لها أن تقوم وتتطوّر إلاّ على أساس نهب القطاع الزراعي وتحويل المزارع إلى مصانع تشتغل هي الآخر وفق النظام التايلوري للّحاق بالغرب ولم لا تجاوزه والانتقال إلى مجتمع الوفرة. منذ سنة 1935 وفي مؤتمر « المزارعين المثاليين » للتعاونيات الزراعيّة شنّLyssenko هجومه الأوّل ضدّ علم الوراثة. أصبحLyssenko يلقّب بـ« عالم التربة » و« عبقريّ التربة » و« الأستاذ حافي القدمين ». نعت Lyssenko علم الوراثة الكلاسيكي بالعلم الرأسمالي وهذا كنقيض لـ« البيولوجيا البروليتاريّة ». كان يعتقد أنّ طبيعة النباتات يمكن أن تتغيّر إذا تغيّر المحيط وذلك انطلاقا من إيمانه بتعدّي الخاصيات المكتسبة أي بمعنى آخر إذا غيّرنا في جسم الكائنات سنغيّر من مكوّناتها الوراثيّة. فهذه الخاصيات المكتسبة ستحدّد مصير الأجيال القادمة. في سنة 1937 نشر مقالا يندّد فيه بعلماء الوراثة بصفتهم متآمرين ومخرّبين وأعداء البروليتاريا الذين يخرّون تحيّة للرّجعيين الأجانب. أصبح Lyssenko رئيسا لأكاديمية لينين للعلوم الزراعيّة عوضا عن Vavilov وعضوا في أكاديمية العلوم ومدير معهد الدراسات الوراثيّة وتحصّل على جائزة ستالين بصفته « بطل الإتحاد السوفييتي ». من المعلوم أنّ Vavilov قد ساند Lyssenko في بادئ الأمر لكنّه ما لبث أن تفطّن أنّ علم البيولوجيا في روسيا قد تخلّف عن نظيره في البلدان الصناعيّة. في سنة 1940 وقع إلقاء القبض على Vavilov وحكم عليه بالإعدام ثمّ وقع التخفيف من الحكم إلى السجن مدى الحياة. مات Vavilov حزنا وحرقة سنة 1943. من المعلوم أن ستالين جاهل في ميدان الزراعة والوراثة ولم يقم ولو ليوم واحد بزيارة ضيعة. تمكّن Lyssenko من إزاحة وإيقاف أكثر من 3 آلاف باحث في ميدان البيولوجيا وقد وقع الزّج بعضهم في محتشدات العمل الإجباري لأنّهم كانوا يعتقدون في صحّة قوانين Mendel. أمّا Lyssenko فقد تمادى في غيّه وصرّح أنّ القمح الذي ينمو في ظروف مناخيّة خاصّة يمكن أن يتحوّل إلى « جاودار » أو شيلم (Seigle) وهذا يعادل قولنا أنه كلّما عاشت الكلاب في الغابات إلاّ وتحولت إلى ذئاب أو ثعالب. يقول Lyssenko « سننتصر على الطبيعة وسنخضعها وستعرف الشعوب السوفييتية بقيادة ستالين العصر الذهبي والوفرة اللاّمحدودة » (هذا يذكّرنا بقولة ديكارت « سيصبح الإنسان سيّد الطبيعة ويخضعها »). في 6 نوفمبر 1948 حيّى مولوتوف عضد ستالين ما سمّاه بانتصار العلم الحقيقي والمادّية الجدليّة على بقايا الأفكار الرّجعيّة والمثاليّة : « من لا يؤمن بأفكار Lyssenko يعمل في ركاب الرأسمالية وهو عدوّ الطبقة العاملة ». أصبح إذن واضحا لكلّ الباحثين أنّ طريق العلم تمرّ بـLyssenko هذا الشرطيّ الذي يلقى الدّعم من قيادة الحزب. لكن مع مرور الأيام برزت خيبات Lyssenko في ميدان الزراعة وبدأ البعض يشكك في أفكاره بصفة علنيّة. في سنة 1956 وبعد موت ستالين، أعاد خروتشوف الاعتبار لـ Vavilov بينما سمح بنقد Lyssenko. في سنة 1956 فقد هذا الأخير السيطرة على أكاديمية العلوم الزراعيّة ولكنّه حافظ على علاقات وطيدة مع مجلس الوزراء واللّجنة المركزية للحزب البلشفي وطفق يمدح خروتشوف لاستعادة مكانته. في سنة 1962 اكتشف العلماء الحامض الرّيبونووي منزوع الأكسجين ADN أو الدّنا وتكتّمت الصحافة الرّوسية عن هذا الاكتشاف لأنّ ذلك يعني بالنسبة للبلاشفة أنّ البرجوازية الغربية قد تغلّبت عليهم في ميدان البيولوجيا. في سنة 1965 وقع عزل Lyssenko وأقرّت لجنة تحقيق رسمية مسؤولية Lyssenko في تخلّف علم البيولوجيا وفي اضطهاد آلاف الباحثين في هذا الميدان واكتشف الجميع أنّ Lyssenko قد زيّف نتائج بحوثه. تماما كما أنّ البروليتاريا طبقة وهميّة خصّتها الماركسيّة بدور قيادة المسيرة التاريخية وفقا لقوانين مسطّرة مسبّقا ومتعالية كانت بيولوجيا Lyssenko علما وهميّا تصوّره وآمن به إلى حدّ الخداع والكذب. لكن ما كان له ذلك لولا تربّع طغمة بيروقراطية ادّعت أنّها تحكم باسم العلم الوحيد والأوحد. يمكن أن نشبّه ذلك بتعنّت رجال البيولوجيا المعاصرين الذين يروّجون للتحوير الجيني ويتنكّرون للمخاطر البيئية والصحية الناتجة عنه وذلك خدمة لمصالح أوليغارشيه مالية. كلّ ذلك باسم حياد العلوم وسلطة الخبراء.

VI- الطبيعـة الحقيقيـة للنظام السوفييتـي على ضوء كلّ ما ذكر كيف يمكن أن ننعت هذا النظام؟ هل هذه هي الاشتراكية الّتي حلمت بها الشعوب وضحّت من أجلها؟ في اعتقادنا لا تهمّ التصنيفات بقدر ما تهمّنا الوقائع التاريخيّة. يرى المؤرّخ Marc Ferro المختص في تاريخ الاتحاد السوفييتي أنّ « الأنتلجنسيا » (الأذكياء باللغة الألمانية) الروسيّة كان لها دور مميّز ومخالف لمثيلتها في البلدان الأوربية. ففي هذه البلدان اعتنت « الأنتلجنسيا » بالشأن العام وتطرّقت إلى قضايا تتجاوز ميدان اختصاصها لكن دون أن تكوّن مجموعة متماسكة وضاغطة. أمّا في روسيا التي كانت فيها البرجوازية طبقة ضعيفة فلقد كان للأنتلجنسيا دور خاصّ. فلقد مثّلت مجموعة تواجه النّظام القائم وطرفا في الصّراع من أجل السّلطة. لم تكن البرجوازية الرّوسية قادرة على تحمّل مسؤولية التحوّلات كما حصل بالنسبة للمجتمعات الغربيّة. فرغم إلغاء القنانة وبروز الصناعات وهجرة أعداد هامّة من الرّيف إلى المدن ظلّت روسيا بلدا زراعيّا بالأساس. في فيفري 1917 كانت روسيا تعيش غليانا شعبيا، لكن لم تبرز على الساحة قوّة شعبيّة فاعلة وقادرة على أخذ زمام المبادرة بل إنّ الفوضى العارمة وظروف الحرب قد يسّرت لمجموعة المثقفين أو « الإنتلجنسيا الثورية » أن تقوم بهذا الدّور وتنوب عن البرجوازية المنهوكة القوى. هي فئة مثقّفة متنوّعة الجذور قد تتماهى مع طبقة العمّال وتتميّز بتماسك أيديولوجي لا يقبل المساومة ويضفي عليها هويّة خاصّة تتميّز بها عن باقي مكوّنات المجتمع وقد كان لحاجة المجتمع الرّوسي للكوادر العلميّة والمثقفة دور في بروز هذه الفئة. الأيديولوجيا هي ذلك الإسمنت الذي مكّن هذه الفئة من لحمة. أصبحت الأنتلجنسيا الرّوسية المعبّرة عن طموحات الشعب الرّوسي ولنقل مع بعض المؤرّخين الرّوس، ضمير الأمّة الرّوسية وروحها النابض. أمّا ماخايسكي الذي تميّز بنقد الحزب البلشفي، فلقد اعتبر أنّ ما سمّاها بـ« اشتراكية الأنتلجنسيا » لا تمسّ قيد أنملة بأجرة المديرين والمهندسين... وبدخل الأيادي البيضاء للعمّال بالفكر« . فاستعمال مصطلح »اشتراكية علميّة« و »الاشتراكيين العلميين« يدلّ على أنّ ما يُعتبر باشتراكية الشعب المزعومة ليست سوى سلطة مستجدّة تقودها حفنة صغيرة من الأرستقراطية من العلماء أو ممّن يدّعون العلم. »إنّهم مهندسو الدّولة الذين يكوّنون الفئة السياسية العلمية المحضوضة« . يقول ماخايسكي : »جحافل الماركسيين يعتبرون أنّ الطبقات لا تتحرّر إلاّ بالاستيلاء على السلطة تماما كما فعلت البرجوازية أثناء الثورة الفرنسية. لكنّهم تناسوا مسألة دقيقة. فكلّ الطبقات الّتي قادت عمليات التغيير كانت طبقات مالكة بما في ذلك البرجوازية بينما لا يملك العمّال أي شيء. فهذه البرجوازية لم تستطع إفتكاك السلطة إلاّ تجسيدا لهيمنتها.. لقد أرسى اليعاقبة ما سمّوه بدكتاتوريّة الفقراء الوهمية وهي تضاهي في وهمها دكتاتورية البلاشفة....لا يمكن للطبقات المضطهدة وغير المالكة أن ترث السلطة وأجهزتها التي إفتكّتها من البرجوازيّة وتحافظ عليها كما فعل البلاشفة...". لقد أعلن البلاشفة أنّ كلّ السلطة للسوفياتات وحلّوا البرلمان لكن هاهم ينظرون إلى الوراء بحنين وما لبثوا أن كفّوا عن مقاومة التيّار الجارف إلى الوراء ليصرخوا : « كفانا ثورات.. ليحيا الوطن... العمل الإجباري للعمّال ! انضباط حديدي في المعامل والمصانع ». في الأثناء رحّب المناشفة بالتوجّه الجديد وتخلّي البلاشفة عن وعودهم في الأرض والحرية وسلطة العمّال في المصانع وسلطة المزارعين في الأرياف. « ها أنتم تتراجعون بعد أن كنتم تنشدون ثورة ضدّ المسيرة الطبيعيّة للأشياء ». تماما كما أوهم البرجوازيون اليعاقبة الشعب بأنّ ثورتهم ستفتح عهدا جديدا للمضطهدين وبذلك ضمنوا دعمهم لها قدّم « مخترعو’ الدكتاتورية البلشفية انقلاب أكتوبر بأنّه النظام الأوّل في التاريخ الذي سينقذهم ويحرّرهم ». لقد أرسى البلاشفة نظاما رأسماليا بيروقراطيا من نوع خاصّ فاق في دكتاتوريته كلّ أشكال الاضطهاد والقمع للبرجوازية. فلقد دشّن البلاشفة أوّل نظام شمولي في القرن العشرين. نابت الأنتلجنسيا عن البرجوازية وكانت تهدف إلى تصنيع البلاد واللّحاق بالبلدان الغربيّة بل تجاوزها وتبنت أشكال التنظيم الرأسمالي للعمل ودعمته بسلطة مركزية فرضت الانضباط الحديدي والانصياع ورفضت كلّ اختلاف ونقد وسلّطت على العمّال والمزارعين وكلّ فئات الشعب دكتاتورية كوادر الحزب وأرست نظاما بوليسيا رهيبا يحبس أنفاس الشعب. فمحتشدات الغولاك Goulag التي مات فيها ملايين المواطنين لا تختلف عن محتشدات هتلر. لا يمكن اختزالنا لتقييم النظام السوفيتي في نقد جنون العظمة لدى ستالين أو بعض « الأخطاء » التي ارتكبها لأننا بذلك نتغاضى عن المجازر التي ارتكبها بمعية لينين وتروتسكي ونتجاهل حقيقة ما عاناه ملايين المواطنين طيلة عقود من قهر واستبداد. يرى البعض أنّ تجربة التحاد السوفييتي تظل « رائدة » لكن ينقصها التسيير الدّيمقراطي وهم يستنقصون من هذه المسألة باعتبارها تأتي في مرتبة ثانية وكأنه هناك فصل بين الشكل والمضمون : الشكل شمولي دكتاتوري والمضمون اشتراكي و« ثوري ». فما دامت الغاية « ثورية » لا تهم الوسيلة حتى وإن اقتضى ذلك التضحية بملايين الأرواح. تحضرنا في هذا الشأن صورة المستبد العادل التي لازالت راسخة في بعض الأذهان. لكن التجربة التاريخية تؤكّد لنا أنّه لا عدالة مع الاستبداد ولا حرّية مع الدكتاتورية.

VII خلاصـة اليوم وبعد مرور ما يقارب القرن عن ظهور الاتحاد السوفييتي وما عرفته العقود الأخيرة من تحوّلات لعلّ أهمّها سقوط المعسكر الشرقي، هل تساءل مثقفونا عن أسباب الانهيار؟ ماذا فعلت الأحزاب الشيوعية في العالم إثر هذه الهزّة العميقة التي أصابت الإتحاد السوفييتي واكتشاف الصين الماوية لمحاسن الرأسمالية وانحلال الأنظمة البيروقراطية في آسيا؟ بعضها ذاب في لمح البصر وأخرى تحوّلت إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية والبعض الآخر قام بحركة تصحيح وتجديد دون أن يصحب ذلك عمليّة تقييم فعلي ومسؤول.

إنّ الصّراع من أجل الحرّية والديمقراطية والكرامة البشرية قديم قدم التاريخ كما أنّ تاريخ الفكر الاشتراكي المعاصر لم يبدأ مع الماركسية بل كان سابقا لها وقد حوّلت هذا التّوق للحرّية إلى قانون تاريخي وعلمي وكأنّ التاريخ قدر محتّم. كلّ نظام فكري جامد ومغلق يهيّئ للاستبداد. فالعامل الموحّد لهذه المرجعيات هو تقنين الاستبداد باسم المبادئ والأحكام المقدّسة والحال أنّ هذه الأخيرة من صنع الإنسان. فباسم الدّين والأمّة والوطن والوفاء للماضي والانتماء العرقي ونشر القيم الحضاريّة والإخلاص للايدولوجيا عرفت البشرية ألوانا من القمع والاستعباد والنتيجة هي ملايين الضحايا والأبرياء. لم تكن ثورة أكتوبر المزعومة سوى « ثورة » قومية قادها بعض المثقفين والمحترفين السياسيين نيابة عن البرجوازية الرّوسية وباسم العمال والفلاّحين تماما كما قام اليعاقبة بالثورة الفرنسية نيابة عن الشعب وباسمه. كان واضحا أنّ الغاية القصوى هي إعادة بعث الأمّة الرّوسية واللحاق بالغرب الصّناعي وبأسرع ما يمكن باسم اشتراكية وهميّة ليست في الواقع سوى شكلا مستحدثا من الدكتاتوريّة. لكن ما هي العوامل الّتي جعلت من « ثورة » أكتوبر تحافظ على هذا الإشعاع العالمي وهذا البريق على مدى قرن فتعمي بصائر عديد من المثقفين. « لقد قدّمت الماركسية اللّينينيّة نفسها بصفتها التطوّر الطبيعي بل المدى الأقصى لمشروع التّحرّر والدّيمقراطية... بحيث برزت بصفتها الوحيدة التي صمدت أمام الرأسمالية والاستعمار... لقد تحوّل مشروع الإنسانيّة من أجل التحرّر والحرّية إلى وهم بل إلى رسالة إلهية تعد بالحياة السعيدة... كلّ ذلك بفضل نظريّة علمية مزعومة » (كاستورياديس : جريدة لومند بتاريخ 24-25 أفريل 1990، انهيار الماركسية اللّينينية). كلّ تنبؤات الماركسيين والماركسيين اللينين قد باءت بالفشل. فبالنسبة للماركسية تتلخّص ديناميكا الرأسمالية في سلسلة من تراكمات الأزمات أي مزيد من الفقر والبطالة وتراكم للإنتاج. لكن هذه النّظرة تنفي وجود تاريخ فعلي للرأسمالية وتستعيض عنه بقوانين جامدة. فبالنسبة لهذه الرّؤية تسير الأمور بمعزل عن نشاط وفعل الناس، طبقات وفئات وكأنّ الرأسماليين لا يتدخّلون بوعي أو أنّ الدّوافع الاقتصادية تسيّرهم وتحدّد تصرّفاتهم بصفة مطلقة. كذك بالنسبة للعمّال ترى الماركسية أنّ حركتهم مشروطة بنفس المحدّدات الاقتصادية وبالحركة الطبيعية للاقتصاد. لقد كان لنضالات العمّال تأثير مباشر على حياتهم إذ افتكّ العمّال حقوقا مكّنتهم من تحسين أوضاعهم وقدراتهم الشرائية وقد ساعد ذالك على مزيد الاستهلاك. في الأثناء ظهرت بيروقراطية عمّالية هيمنت على النقابات وكلّ أشكال التمثيل. كما أنّ تطوّر وسائل الدّعاية والإعلام وهيمنة مجتمع الاستهلاك وتفشي الفردانية قد أثّرت سلبا على هذه النّضالات فعرفت البشرية عقودا من الرّكود والجمود استغلّتها النيوليبرالية لتفرض هيمنتها وتمرّر مشاريعها. لقد عجزت الماركسية عن تفسير هذه الظواهر الجديدة وتخلّفت عن النّشاط الفكري والسياسي وهي اليوم أعجز من أن تمثل أداة للفكر والعمل. تعتبر الماركسية أنّ التقنية محايدة بل هي تعتبر نفسها علما أو بالأخرى خاتمة العلوم بما أنّها تشمل العلوم الصحيحة والاجتماعية والتاريخية لكنّ هذا العلم لا يفقهه إلاّ الرّاسخين في العلم من المثقفين المحترفين السياسيين. أمّا الغالبية فهي تنقاد إلى مصيرها الحتمي . فهؤلاء المثقفون لم يفعلوا سوى أنّهم استجابوا لنداء التاريخ وقوانينه. « كل ما هو واقعي عقلاني » كما يقول هيجل وهذا هو قدر التاريخ. تحوّلت الماركسية اللّينينية إلى ما يشبه الرّسالة السماوية وتحوّل البلاشفة إلى دعاة لهذه الرّسالة بقيادة حفنة من المثقفين النيّرين الذين يجسّدون روح هذه الرّسالة. أُخضع نضال شعوب العالم قاطبة ومن خلال الأممية الشيوعية لمصلحة الأمّة الرّوسية وتحوّلت الأحزاب الستالينية إلى أداة طيّعة للحزب البلشفي وفقدت حرّية الفكر والعمل. ارتهنت البلشفية نضال شعوب العالم إلى حدّ كبير. ليس من الغريب أن تتأثّر الفئات المثقفة في بلدان العالم الثالث باللّينينية خصوصا إذا علمنا أنّها رفعت شعارات مقاومة الإمبريالية وأنّ النظام السوفييتي قد برز كنصير للشعوب المضطهدة. صحيح لقد كان للماركسية اللّينينية صدى في أوساط مثقفي البلدان الغربية لكن بالمقابل ظهرت أدبيات وكتابات تعرّي حقيقة التجربة البلشفية سواء من داخل الحركة الماركسية (روزا ليكسمبرغ، كورش، بانكوك، روهل، ماخايسكي، سوفارين، ماتّيك...) أو من خارجها (الفوضويون، حركة الاشتراكية والبربرية، الوضعياتيّون Situationistes، حركات الخضر...). لكن هناك وجه شبه بين حالة روسيا وحالة بلدان الجنوب إذ أنّ في كليهما لم تكن البرجوازية المحلية (وهي في بلدان العالم الثالث بالأساس برجوازية تجارية) قادرة على قيادة مسيرة التغيير بل كانت تتعامل بصفة نشطة وإيجابية مع المستعمر. لذلك كان للمثقفين والكوادر المثقفة دور أساسي في التحوّلات التي عرفتها بلدانهم سواء أثناء فترة الاستعمار أو بعده، وهذا جليّ بالنسبة للبلدان العربيّة. كل التجارب البيروقراطية التي عرفتها بعض بلدان العالم الثالث حتى منها ذات الطابع الوطني كانت إلى حد كبير صورة للتجربة السوفييتية. في بلداننا العربية لازالت فئات واسعة لم تتخلّص بعد من فكرة الزعيم الأوحد والمنقذ والمستبد العادل. كما أنّ البعض لا زال يتعلّق بالعصر الذهبي الذي يتصوّره في مخيّلته ويريد استعادته ويتغاضى عن كلّ الجوانب السلبية من تاريخنا. يمكن أن يتعلّق مثقف عربي بوهم اسمه اللّينينية ويجعل نفسه أسيرا لها حتّى وإن كان جاهلا لمحتواها الفكري وهذا غالبا ما وقع.


Commentaires

Navigation

Articles de la rubrique

Soutenir par un don