ثقافة النرجسية الآثار الحاسمة للنّظام الرّأسماليّ على حياتنا النّفسيّة تعريب وعرض : المنتصر الحملي الإهداء : إلى العربي الرّزقـي ما هو الأثر الحاسم الّذي تتركه الرّأسماليّة في حياتنا النّفسيّة؟ سنة 1979، قدّم المفكّر الأمريكيّ كريستوفر لاش Christopher Lash تأويلا نفسيّا- اجتماعيّا للطّبقات الوسطى الأمريكيّة في مؤلّفه « ثقافة النّرجسيّة ». حيث عرض كيف أنّ المجتمع الرّأسماليّالأمريكيّ، حسب رأيه، ينتج أفرادا ذوي نزعات نرجسيّة. فهل مازال هذا التّأويل راهنا؟ وهل يقتصر على الطّبقات الوسطى الأمريكيّة وحدها؟ يبدو لنا أنّ ذاك التّحليل يتجاوز إطار دراسته الأصليّة. لذلك حاولنا أن نحرّر عرضا قصيرا لهذا الكتاب مع حريّة الاستلهام منه وإرادة تفعيله من جديد. اقتضاب هذا الكرّاس- وبالتّالي طابعه الكاريكاتوري نوعا ما- يثير بلا شكّ بعض الارتياب. لأنّ التّعميم المعروض هنا يستدعي تدقيقا وتعميقا. ولكن، فعليّا، من بإمكانه وصف تعقّد حالة كلّ فرد من خلال عرض إجماليّ لبعض العلامات يزعم أنّها تنطبق على الجميع؟ إنّ هذا العرض لا يقوم على تحليل سوسيولوجيّ دقيق للواقع. بل هو فقط محاولة لإنارة النّزعات النّفسيّة الّتي تبدو لنا مهيمنة. بقراءتك للتّوصيفات النّفسيّة الآتية، قد يصعد من قاع وعيك صوت صغير قائلا : « عجبا، ولكنّ هذا أنا ».لنكن واضحين : ليس الهدف من هذا الكرّاس إيقاظ مشاعر الإثم فيك. من المؤكّد، كما بدا لنا، أنّ توصيفات لاش تدعونا إلى أن نفحص ما هو رأسماليّ في العمق (أو ما يمكن تأويله هكذا) ، في قلب علاقاتنا وخصوصياتنا، في مركز أنماط تفكيرنا ولاوعينا. ولكن هذا التّحليل ، في ما وراء مقاربته النّفسيّة، هو قبل كلّ شيء نقد سياسيّ : لأنّه يؤكّد أنّ النّرجسيّة ليست جوهر الطّبيعة الإنسانيّة بل هي ظاهرة اجتماعيّة. أخيرا، لنوضّح أنّ غايتنا ليست أن نعرض بكلّ صرامة ما يفكّر فيه لاش، ولا ما ينبغي التّفكير فيما يفكّر فيه. بهذا المعنى، ليس بمستطاعنا إلاّ أن ننصحك بقراءة ثقافة النّرجسيّة La culture du narcissisme. نتمنّى لك قراءة مفيدة.بعض التّعريفات التّمهيديّة...المقتطفة من المنجد « روبار الصّغير »نرجس:1- نبتة أحاديّة الفلقة، بصليّة، عشبيّة، ذات أزهار جريسيّة بيضاء أو صفراء جدّ عطرة.2- من نرسيس، شخصيّة أسطوريّة، وقعت في عشق ذاتها عندما رأت نفسها على سطح ماء ينبوع، واستحالت إلى زهرة ستسمّى باسمه.نرجسيّة :إعجاب بالذّات، اهتمام مبالغ فيه بالأنا. « النّرجسيّة مفهوم لا يمدّنا بحتميّة نفسيّة جاهزة، بل بطريقة لفهم التّأثير النّفسيّ للتّغيّرات الاجتماعيّة الحديثة... بالفعل، يبدو أنّ النّرجسيّة تقدّم أفضل طريقة لمكابدة ضغوطات الحياة الحديثة وقلقها. فالظّروف الاجتماعيّة المهيمنة تنزع نحو إظهار العلامات النّرجسيّة الموجودة في كلّ واحد منّا بدرجات متفاوتة « .كريستوفر لاش، ثقافة النّرجسيّة ـ ـ الوساوس الجماعيّة« تحذيرات من عاصفة ما، نذائر شؤم، إيماءات بكوارث توسوس زماننا. إنّ معنى « أشياء بصدد الموت »، الّذي أعطى شكلا للكثير من الانتاجات الأدبيّة في القرن العشرين، انتشر الآن في المخيّلة الشّعبيّة انتشارا واسعا. » وساوس تعشّش في المخيال الجمعيّ. تشجّع على بروز النّرجسيّة. فما هي؟ يشعر الفرد الغربيّ بفظاظة المجتمع. يعرف أنّ المظالم فيه كبيرة، وأنّ الفقر واللاّمساواة ينموان. يشاهد المتسوّلين في الشّارع وأرقام البطالة. لا يظهر له المجتمع نظاما متناسقا ورفيقا، بل بالأحرى كونا من الصّراعات، فيه خاسرون ورابحون، مهيمنون ومغلوبون. لديه وعي بالتّهديدات الّتي قد تدمّر البشريّة، أكانت ذات طابع بيئيّ (فيروسات، كارثة نوويّة، الإرتفاع الحراريّ) أم اجتماعيّ أم سياسيّ (الحرب، الإرهاب، التّضخّم السّكّانيّ، المجاعة) نهايات العالم هذه تلوّح بها وسائل الإعلام دائما. فتبدو له قريبة وبعيدة في الآن نفسه. قريبة من حيث أنّه غالبا ما يسمع حديثا عنها. وبعيدة من حيث أنّه ليس له عليها أيّ تأثير. يشعر الفرد الغربيّ بأنّه قد وقع تجاوزه. « كلّ تحقيق مصوّر يعرض له كارثة جديدة، اعتباطيّة، لا يمكن التكهّن بها، ليس لها أيّ اتّصال باليوم المنقضي. » يشعر بأنّه ضئيل أمام هذه المشاكل الضّخمة. ولأنّه مقتنع بأنّ سلوكه اليوميّ قليل الوقع، فلا يرى كيف يمكن له بهذا المستوى أن يغيّر أيّ شيء كان. يعرف أنّ حياته قد تنقلب في أيّ لحظة. فهو ليس في مأمن من حادث ما، من طرد، من اعتداء، من مرض سريع، من وجع لا يطاق. سيموت، هذا أمر يعرفه. كلّما مرّ الزّمن، ازداد وسواس هذه الفكرة فيه. تبدو له الشّيخوخة عذابا يداريه المجتمع أو ينكره. وقد يجد نفسه في مأوى كريه للتّقاعد ، حيث ينضمّ الفقر العلائقيّ كلّ يوم إلى الأوجاع البدنيّة. أيّ معنى لحياته : النّجاح المهنيّ/ الحبّ المثاليّ/ الأبناء/ السّكينة/ الفرد الغربيّ يبحث عن معنى. هناك فراغ داخليّ هائل يخنقه، انعدام رضى دائم، كبت بالغ. لا يجد مسلكا واحدا يسلكه. تبدو له الأديان عموما بالية أو خطيرة. ويتفاقم هذا الشّعور فيه بسبب التّناقضات الصّارخة الّتي يعيشها أغلب المؤمنين المحيطين به. وحتّى لو حاول أحيانا أن يضبط لنفسه منظومة قيميّة خاصّة به، فإنّها ليست سهلة المنال، وهو ما يزيد باستمرار من شعوره بالذّنب. ورغم ذلك، يحلم بأن يصبح حكيما، هادئا، ورصينا وسط العاصفة الاجتماعيّة.محيطه الاجتماعيّ إجمالا جافّ وغير شخصيّ. يمكنه طبعا أن يكوّن علاقات ودّيّة، أن يؤسّس « قبيلته الخيّرة ». غير أنّ السّلوكيات الأنانيّة والعدائيّة وغير الشّخصيّة تشكّل حياته اليوميّة، في وسائل النّقل العموميّة، في المغازات، في الطّرقات، على الشّواطئ، الخ. كما أنّ علاقاته المهنيّة سطحيّة، وفي غالب الأحيان أسيرة للتّراتبيّة أو النّفعيّة. يشعر أنّه متعاوض interchangeable، مشدود الأعصاب، مرهق، في انتظار الباقة التّعويضيّة « أجر- إجازة مدفوعة الأجر ». في المدرسة، في العمل، في المغازات، في أوقات الفراغ، يتحرّك في كون من اللاّمبالاة، من العلاقات العابرة، من الصّلات التّجاريّة. حتّى عالمه الأسريّ نفسه يبدو له محطّما أو قابلا للتّحطيم. من لم يسمع من حوله عن حالات طلاق، عن أسر تقطّعت، عن صراعات داخليّة بين الإخوة، عن أطفال مهملين، عن أزواج معذّبين؟ الفرد الغربيّ ليس له إجمالا أيّ أمل في وقوع تغيير اجتماعيّ أو سياسيّ. دوائر السّلطة تلوح له بعيدة، مفصولة عن حياته اليوميّة. هو يدرك السّياسة باعتبارها عالم الفساد، والتّلاعب، والكذب. لا يصدّقها أو لم يعد يصدّقها. مواطنته، باعتباره »ديمقراطيّا » مزعوما، خاوية، يحتاج إليها سطحيّا عند انتخابات تمّ انتقاء مرشّحيها مسبّقا وليس له إلاّ معرفة فضفاضة بالبرامج، أو كذلك عند حملات التّحسيس كتلك المتعلّقة بالسّلامة المروريّة أو وسائل تجنّب الحمل أو التّدخين. يبدو له التّشريع معقّدا جدّا وغير مفهوم وعلاوة على ذلك نادرا ما يتمّ شرحه له. لا يعرف إلاّ جزئيّا أو بصفة غائمة كيفيّة اشتغال الدّولة أو الإدارة. إنّ فهمه لهذا الكون متوقّف على الخبراء (المحاميّ، الحقوقيّ، المهندس، الخ.)جميع هذه الأفكار لا تشكّل « كلاّ » واعيا باستمرار في الحياة النّفسيّة لكلّ فرد. بل بالأحرى تنجلي بشكل متناثر، في حالة نصف وعي ليقظة باهتة، في جوف كابوس، في المسكوت عنه لمناقشة ما، لفكرة ما، لتنهّد ما. إنّه في الغالب شعور متفشّ في الدّائرة الواعية وفي اللاّوعي سواء بسواء. ولكنّ هذا المناخ الاجتماعيّ يلقي بالفرد الغربيّ في رعب شديد وكامن. إنّه في أعمق أعماقه يائس، ولو أنّه ليس بالضّرورة دائما على وعي بذلك. هنا، يكون نرسيس جاهزا للبروز. 2 ـ استراتيجيات الدّفاع عند نرسيس « الكارثة المحدقة، وقد صارت هاجسا يوميّا، هي من الابتذال والألفة بحيث ما عاد أحد يولي اهتماما لسبل تجنّبها. النّاس يهتمّون بالأحرى باستراتيجيات البقاء، بتدابير ترمي إلى الإطالة في أمد وجودهم الخاصّ أو ببرامج تضمن لهم الصّحّة وراحة البا. » منبثقا من اليأس، سيبحث نرسيس عن الرّاحة. فالإنسان لا يستطيع فعلا أن يعيش طبيعيّا في مثل هذا المناخ من الرّعب والخوف من الغد. وبطريقة لاواعية، ستضع نفسيته سلسلة كاملة من آليات الدّفاع. * الانطواء على الحاضر المستقبل وعيد والموت حتميّ؟ لا قدرة لنا على مواجهة التّهديدات الفرديّة والجماعيّة الّتي تحدق بنا؟ الأولى إذن عدم التّفكير في ذلك والعيش للذّات ما بقي من وقت قصير. ينكفئ نرسيس على الحاضر، يركّز تفكيره على يومه، أسبوعه، سنته، عطلته القادمة. نادرا ما تتخطّى مشاريع حياته السّنوات العشرة أو المدّة الزّمنيّة لقرض سكنيّ. بنفس الكيفيّة الّتي يتجنّب بها نرسيس غالبا التّفكير في المستقبل، لا يهتمّ كثيرا بالماضي. زد على ذلك أنّ الأوقات القليلة الّتي قرأ فيها التّاريخ تعود إلى فترة المدرسة.إنّها لم تكن مشوّقة بتاتا : تواريخ كبرى، دروس تحفظ للامتحانات (ما بين درس رياضيات ودرس بيولوجيا)، نظرة للتّاريخ سطحيّة وغير شخصيّة تتجنّب عموما التّطرّق بشكل مباشر إلى مصائر الأفراد « غير المشهورين » (أي أغلبيّة السّكّان- باعتبار أنّ مصير النّساء مغيّب أكثر باستمرار) ، وإلى الجروح الاجتماعيّة المفتوحة حتّى الآن. عدم الاكتراث هذا بالمستقبل والماضي هو خاصّية ذهنيّة البقاء. سيبحث نرسيس عن سدّ حاجياته الآنيّة ليصل إلى راحة ، هنا والآن. * عدم الاكتراث بالسّياسة وتلهية الذّات مجتمع غير إنساني، عمل مضن، كوارث محدقة... تعرفون كلّكم الجملة القصيرة الآتية المسموعة في كثير من الأحيان : « على كلّ حال، لا يمكننا فعل شيء »... موقف نرسيس هذا يعكس ـ فقدان أيّ أمل في تغيير المجتمع، وحتّى في فهمه ـ ليس له أيّ رجاء حقيقيّ في عمل الدّولة أو في المشاركة في العالم السّياسيّ. عندما يصوّت نرسيس، فذلك عموما من غير اقتناع كبير، لأنّه لا ينضمّ إلى أيّ حزب أو نقابة. إزاء الإقرار بالعجز، تكون تسلية النّفس هي الأولى : التّفكير في الذّات وفي ما يخصّها، التّسلّي باستهلاك الملهيات العديدة أو أوقات الفراغ المتجدّدة بوفرة. أفلا يعرض منها الإشهار كلّ يوم؟ رغم ذلك، لم لا يستمدّ نرسيس من عدم رضاه ويأسه الطّاقة الكفيلة بتأسيس سياسة أخرى، أنماط حياة أخرى، عالم اجتماعيّ وعلائقيّ آخر؟ لم لا يحاول تغيير شروط عمله، وتحويل حياته؟ تلك المشاريع تتطلّب طاقة ضخمة، استعدادا للمخاطرة، انقلابات في الحياة، قفزا في المجهول. لم إذن مقايضة وضعيّة غير مريحة ولكنّها أليفة ومتوقّعة تقريبا، بانقلاب في الحياة غير مأمون العواقب، خطير، وبالتّالي مقلق أكثر؟ يبحث نرسيس عن الوضعيّة المريحة أكثر من غيرها والمأمونة على المدى القصير، أي تلك الّتي توفّر له أكبر قدر من الرّاحة العاجلة. يتعلّم كيف « يقيم علاقة ألفة غريبة ووديعة مع الكارثة الاجتماعيّة الّتي يستشعرها بداخله ومن حوله. » * الوقوع فريسة رغبته في الافتراس« يشتكي النّاس من أنّهم عاجزون عن الإحساس. فهم بصدد البحث عن انفعالات قويّة، قادرة على تنشيط شهيّتهم الخاملة وعلى إحياء شهواتهم النّائمة... إنّهم يستشيطون غضبا داخليّا لا يمكن لمجتمع بيروقراطيّ وكثيف وفائض بالسّكّان أن يوفّر له سوى القليل من قنوات التّصريف المشروعة. » شهيّة نرسيس هائلة. يبحث عن هدف، عن مثال، عن هجاس obsession يعانقه. إنّه المرشّح المثاليّ لاستيهامات fantasmes الثّروة والقوّة والسّلطة والجمال. ولكنّه في الوقت ذاته واع بأنّ هذه الشّهيّة تنخره، بأنّها مصدر عدم إشباعه الدّائم. في قرار نفسه، يودّ الإنعتاق من هذه الشّراهة، يودّ العثور على سكينة ما، على راحة ما. اللاّمبالاة والانفصال بإمكانهما أن يسمحا لنرسيس بالعثور على وهم الرّاحة في العاصفة الباطنيّة من الرّغبات الّتي تفترسه. ويتمثّل هذا الموقف في « أن يكون هنا في الوقت الّذي يكون فيه أساسا هناك »، أن يحاول اتّقاء وجود لا يحتمل بالنّأي عنه بعيدا، بفصل حياته عن تفكيره. نرسيس ينزع نحو عالمه النّفسيّ. يتعلّم فعلا ألاّ يستخلص عواقب أفكاره، أن ينكر في الآن نفسه بداهة حقيقته الاجتماعيّة وبداهة رغبته في التّغيير العميق. انفصاله، مراحل إحباطه، ضجره الكبير، كلّ هذا ينمّ عن رغبة متعاظمة أو غير محسوسة أو عرضيّة ولكنّها عميقة في « ترك كلّ شيء ». يبقى أيضا درب الانفعالات الكبرى، الكحول أو المخدّرات الّتي تذيب الرّغبة في أحاسيس مضطرمة بالسّعادة.* اللّجوء إلى استخفاف مريح « القدريّة المحمومة تمثّل إطارا لمتعيّة hédonisme قصيرة المدى لفرد يائس يأسا خفيّا . فرنسوا برين السّعادة المطابقة للأصل، قاليمار يلتجئ نرسيس إلى الانفكاك النّاقد والتّجاوز السّاخر. فعن طريق المزاح والسّخرية والتّهكّم يحسّ فعلا بأنّ حدوده ومخاوفه تقلّ أهمّيتها. « وبهذا يعطي للآخرين ولنفسه، من خلال نزع الأسطرة، الانطباع بالتّسامي على الواقع، حتّى عندما يخضع له ويقوم بما ينتظر منه. » عن طريق التّهكّم، يشعر بأنّه متفوّق، حتّى وإن كان تهكّمه ناشئا من شعور لاواع بالإحساس بأنّ ضغوطات وجوده قد تجاوزته حقّا. هذا الانفصال السّاخر يواري عذابه العميق، وفي نفس الوقت، يشلّ إرادته في تحويل المجتمع، علاوة على الإعجاب الّذي يثيره من يبدو عارفا ظريفا بالانحطاط الاجتماعيّ...وذلك حتّى إن لم تكن الرّياضة المتمثّلة في وصف الكارثة الحاضرة، دون نباهة وبمجاملة متفاوتة، سوى طريقة أخرى للقول « هكذا هو الحال ». تتصرّف الدّعابة « لتأخذ بعض المسافة عن همومها أقلّ من تصرّفها لتتوصّل ببراعة إلى اكتساب رضا الحاضرين، أي إلى شدّ انتباههم دون دعوتهم إلى التّعامل بجدّيّة مع المؤلّف أو مع موضوعه ». من جهة أخرى، يفتتن نرسيس بالنّقد الذّاتيّ الهزليّ. فالاستهزاء بالذّات، يعني دائما الإبهار وتجريد النّقد من سلاحه، يعني تحليل الذّات تحليلا هزليّا. وبضربات قويّة من الكذب والسّخرية واللّهو والنّفي واللاّمبالاة، يحاول نرسيس أن يتكيّف، أن يتصالح مع واقعه الاجتماعيّ.* السّعي إلى الإعلاء من قيمة الذّات بما أنّ المجتمع بلا مستقبل، فمن الطّبيعيّ أن نعيش للّحظة الرّاهنة، أن نركّز اهتمامنا على بروزنا الخاصّ بنا، أن نصير عارفين حذرين بانحطاطنا الخاصّ، وأخيرا، أن نقوّي اهتماما « متعاليا بذواتنا » يودّ نرسيس أن تكون حياته مختلفة، مؤسطرة، فخيمة. ولكن، كيف السّبيل إلى أسطرتها دون نظرة الآخرين فيها لتأمّلها، دون مرآة للاطمئنان؟ النّرجسيّة تحوّل صاحبها إلى غاو : يسعى نرسيس إلى جعل الآخرين يحبّونه ويعجبون به ويعكسون أناه الفخيمة. هو ألعبان بارع في الغالب، وهي موهبة تجعله يتحكّم في الانطباعات الّتي يعطيها للآخر، يتفّه الفهم ويراوغه، يسحر بدلا من أن يقنع. يحسب تعابيره ليرى مدى تأثيرها في الآخر، يتحاشى نقائصه ليحسّن قدرته على التّأثير. زيادة على ذلك، لدى نرسيس شعور بأنّه مراقب دائما من الآخرين. بيد أنّه في الأخير لا يحقّق إلاّ القليل من الرّضى على أدائه وكثيرا ما يحتقر فيما بعد أولئك الّذين يتوصّل إلى التّلاعب بهم. فضلا عن ذلك، فإنّ احتقاره لمحيطه احتقار منهجيّ. بموازاة ذلك، يلاحق نرسيس باستمرار أولئك الّذين يشعّون شهرة وقوّة وجاذبيّة. أليست مخالطة « الرّجال العظام » جالبة للأهمّيّة؟ ولكن، « إذا كان نرسيس يعجب ب »المنتصر » ويتماهى معه، فذلك لأنّه يخشى أن يوضع ضمن « الخاسرين ». فهو يتمنّى أن يعكس بعض الأنوار من نجمه، غير أنّ نسبة قويّة من رغبته تلك تمتزج بأحاسيسه، ويتحوّل إعجابه غالبا إلى كراهيّة إذا كان موضوع تعلّقه يقوم بأيّ شيء لتذكيره بضآلته الخاصّة. » كلّ هذا لا يرضيه. فيقيّم نفسه دون توقّف ويشكّ كثيرا في نفسه. معنوياته متأرجحة ومشوّشة. خيبته دائمة، وهي مصدر حقده وسخطه. نرسيس يسير نحو الانهيار العصبيّ. وحين يعي بأنّه ينبغي له ربّما أن يحيا دون أن يكون مشهورا وأن يموت دون أن يشعر الآخرون أبدا بالحيّز الصّغير جدّا الّذي يحتلّه على هذه الأرض، فستكون تلك ضربة مدمّرة لهويّته. يخشى نرسيس أن يكون من بين النّاس « البسطاء »، النّاس « العاديين »، ويحتقر في قرار نفسه النّاس « الطّبيعيين ». وهو علاوة على ذلك مفتون بعلم النّفس، إذ يجد فيه دعما لاستيهام القدرة الكلّيّة والشّباب السّرمديّ، والمعادل الحديث للخلاص : « سأجد الصّحّة العقليّة في التّحليل النّفسانيّ ». إنّه المرشّح المثاليّ لتحاليل لا تنتهي. يسعى هكذا نرسيس إلى أن يتعلّم كيف يحبّ نفسه كفاية حتّى لا يحتاج إلى الآخرين ليكون سعيدا. 6 ـ الشّعور بالقصور العلائقيّ رغم شعوره برغبة جامحة في ذلك، لا يعرف نرسيس كيف يتفاهم مع الآخر. يدلّ على ذلك نقص حبّه للاطّلاع على هذا الآخر. ورغم أنّه يعرف كيف يبرز، إلاّ أنّه غالبا ما يعجز عن أن يحزن فعلا لحزن الآخر، عن أن يحسّ بمشاعر عفويّة، عن أن يهتمّ بالآخرين بطريقة صادقة ودائمة. علاقاته بصفة عامّة غير مرضية. نرسيس غير مبتهج في العمق بعلاقاته الإنسانيّة، ومقتنع في قرار نفسه بأنّ السّعي إلى الهيمنة يسم جميع العلاقات. ومع ذلك، فهو يدعو بانتظام إلى القيم : إلى الصّداقة، الحبّ، المودّة، الحرّيّة. ولكنّه كلّما نادى بها، نزع أكثر نحو الهروب منها. مثلا، إنّ إجلاله للمودّة يخفي خشيته من عدم العثور عليها أبدا. من جانب آخر، ليس عالمه الباطنيّ ملاذا. فهو كثيرا ما يكشف عنه في سبيل الإغراء وحتّى يهلّل له، ولا يتورّع عن الكذب لاستدرار التّعاطف معه. [ورغم أنّ نرسيس يستطيع الفعل في العالم اليوميّ ويفتن محيطه في أكثر الأحيان (ومن أوراقه الرّابحة أن يستسلم لاعترافات مغشوشة عن شخصيته)، إلاّ أنّ احتقاره للآخر وكذلك ضعف حبّ اطّلاعه عليه، يفقّران حياته الشّخصيّة ويقوّيان « التّجربة الذّاتيّة للفراغ »]. مرعوبا من التّبعيّة والالتزام، يفضّل نرسيس الاهتزازات العاطفيّة و لا يتحمّل المسؤوليّة كلّيّا عن ارتباطاته. مهووسا بالنّتيجة، يبحث عن الإشباع الجنسيّ باعتباره غاية في حدّ ذاتها، يقدّم طلبات شاذّة، تنخر فيها شهيّته الخاصّة. وتحمله حدّة رغباته إلى أن يطالب أصدقاءه وشريكاته في الجنس بحاجات كبيرة. ولكن، كما أنّه مرتعب بسبب احتدام رغباته الباطنيّة، فإنّ رغبات الآخرين بدورها ترعبه بنفس القدر. لذلك يكبت دوريّا طلباته ولا يطلب إلاّ علاقة حرّة دون وعد بالدّوام من الطّرفين. إنّه يسعى إلى أن يكون محبوبا ولكنّه يخشى أن يحبّ. نرسيس يريد كلّ شيء، حالاّ، ولكنّه لا يريد الالتزام بأيّ شيء. و »لأنّه عقد العزم على التّلاعب بمشاعر الآخرين مع حماية نفسه من أيّ عذاب عاطفيّ، يبذل كلّ فرد جهدا، من باب الوقاية، للظّهور في مظهر الإنسان السّطحيّ، ويعلن عن انفصال ساخر لا يشعر به إلاّ جزئيّا، ولكنّه يصبح عادة و،بأيّ حال، يملأ العلاقات مرارة، وليس ذلك إلاّ لشدّة المطالبة به. في الوقت نفسه، يراد من العلاقات الحميمة الغنى والقوّة الّذين يوجدان في تجربة دينيّة. » وإذا هو أحسّ بالضّيق عندما يحدث له أن يتقدّم بطلبات، فذلك لأنّه يخشى أن يشعر الآخر للتّوّ بأنّه من المسموح له أن يقوم بدوره بنفس الشّيء. يجد نرسيس صعوبة في أن يتصوّر حاجة وجدانيّة لا تسعى إلى افتراس الموضوع الّذي يتعلّق به. يستنكر بعنف الغيرة وحبّ الامتلاك، ويتصرّف بفوضى سائبة، متجنّبا أيّ التزام عاطفيّ في حين يطالب به شريكه. ولأنّه يعظّم في الغالب التّحلّل العاطفيّ معتبرا إيّاه فضيلة، فهو المرشّح المثاليّ لنظريات « الحبّ الحرّ ». غير أنّه، حين تنقضي فترة الغبطة، يصيبه الخذلان عموما ويشعر بانفكاك وجدانيّ عميق. فيشكو من قصور انفعاليّ عن الإحساس بأيّ شيء، فهو « كلّما زاد تجمّده في الدّاخل، زاد نشاطه في الخارج ». بالتّزامن مع ذلك، يطمح نرسيس إلى أن يتحرّر من جشعه ومن غضبه، أن يصل إلى انفصال هادئ بعيدا عن كلّ انفعال، أن يتجاوز ارتباطه بالآخرين. إنّه يحلم بأن يكون لامباليا بالعلاقات الإنسانيّة وبالحياة نفسها : يظنّ أنّه سيكون هكذا قادرا على القبول بعرضيتها.* أن يكون في الوقت نفسه الضّحيّة والجلاّد « نحن كثيرو الإهمال، أو كثيرو الاهتمام بذواتنا، إلى درجة تمنعنا من التّعمّق في بعضنا البعض : أيّ شخص شاهد أقنعة، في حفلة تنكّريّة، ترقص معا ودّيّا، وتمسك بأيدي بعضها البعض دون أن تتعارف، لتفترق في اللّحظة الموالية، ولا تلتقي أبدا ولا تتحسّر، يمكنه أن يكوّن لنفسه فكرة عن العالم. » (فوفنارك حكم وأفكار، 2003 ) ينزع نرسيس نحو إسقاط الكروب والاعتداءات الّتي يتعرّض لها على كلّ مكان : على حياته الحميمة أو المهنيّة أو السّياسيّة. يعيد إنتاج الشّعور بأنّه يتّخذ أداة في الوقت الّذي يتّخذ فيه هو الآخرين أداة، ينقل قساوة حياته الاجتماعيّة إلى حياته الشّخصيّة. كلّ اللّقاءات، حتّى الحميمة منها، تصبح إذن مناسبة لاستعمال الآخر بمثابة موضوع للمتعة أو للسّلطة. يعيد نرسيس في علاقاته، بلاوعي في الغالب، إنتاج الاستغلال الّذي يشعر به أو يعاني منه. وبما أنّ الأحداث في معظم الوقت تهيمن عليه وتتجاوزه، فهو ينتهز كلّ الفرص ليتصرّف كمهيمن. مثلا، « يعرف نرسيس في كثير من الأحيان نجاحا كبيرا في حياته المهنيّة. فمن اليسير عنده التّلاعب بالانطباعات الشّخصيّة : تحكّمه في حدّتها هي ورقة رابحة لديه في المنظّمات المهنيّة والسّياسيّة حيث تكون أهمّيّة المردود أقلّ من أهمّيّة « قابليّة الرّؤية » و »الحماسة » و »لوحة صيد » جميلة... إنّ بيئة « مابين المستخدمين » الوفيرة العدد للبيروقراطيّة الحديثة، حيث يكتسي العمل طابعا مجرّدا ومنفصلا تماما تقريبا عن إنجازه، تشجّع وفي كثير من الأحيان تجازي، بطبيعتها ذاتها، ردّ فعل نرجسيّ. » واحدة من خاصّيات النّظام الرّأسماليّ تتمثّل في تحويل الضّحايا إلى جلاّدين. ويؤدّي هذا الموقف المزدوج إلى شرخ ذهنيّ وإلى سلوكيات اجتماعيّة يتناقض بعضها مع البعض الآخر.* العيش في التّناقض[الاحتراس من الإشهار مع الاستمرار في الاستهلاك، رفض السّياسة- المشهد مع التّحمّس لما يجري، يجعل منّا كائنات متناقضة. هذا التّشوّش الإيديولوجيّ الّذي يساهم الإشهار فيه يقودنا إلى الانخراط في « يقينيات » متعارضة أكثر فأكثر : حلم لكلّ واحد سيّارة وامتلاء الطّرقات، انتصار الاتّصالات واتّساع الوحدة، عرائس بحر النّموّ الاقتصاديّ ومدّ البطالة. ينبغي تصديق كلّ شيء ونقيضه، وهذا ما كان الكاتب أوروال Orwell يدعوه في روايته « 1984 » بـ « ازدواجيّة التّفكير ». إنّها مسألة شرخ ذهنيّ حيث ينبغي على كلّ شخص أن يجمع بين المعطيات الحزينة للتّجربة اليوميّة من جهة والتّأثير المتواصل لإيديولوجيا محيطة « واثقة حتّى الموت »من جهة أخرى.] (فرنسوا برين، عن الإيديـولوجيا اليوم بارنـقون، 2004 ) في كتابه « 1984 »، يقوم أوروال بوصف التّفكير المزدوج، هذه الكفاءة في الإنسان على أن يستبطن توكيدين متقابلين. إنّ هذا التّحطيم للرّوابط المنطقيّة جليّ في شخصيّة النّرجسيّ. مثلا : - هو يجلّ التّعاون والعمل الجماعيّ وفي نفس الوقت يغذّي دوافع غير اجتماعيّة في العمق وينغلق غالبا في مواقف « التّسامح العدوانيّ ». - هو يرفض الدّين ولكنّه يبدو مثل كائن مؤمن بما أنّه يفوّض آخرين فيما ينبغي أن يفكّر فيه ويعمل (خبراء، مؤسّسات، طائفة،الخ.). - هو مفرط في استخفافه وتقزّزه من عالم السّياسة ولكنّه يستمرّ في التّصويت لهذا الحزب أو ذاك. - هو يمجّد احترام القوانين ولكنّه يغشّ متى استطاع. يمتثل للمعايير الاجتماعيّة « خشية أن يعاقبه الآخر، ولكنّه يرى نفسه غالبا مثل خارج على القانون، ويقدّم الآخرين لنفسه على هذا المنوال. » - « هو يريد بشكل سطحيّ أن يكون منبسطا ومتسامحا، لا يسعى إلى فرض يقينياته الخاصّة على الآخرين، ولكنّه ينكمش على مواقفه إذا أحسّ بالهجوم عليه. » - هو يضطرم رغبات وغضبا ولكنّه يريد أن يكون اجتماعيّا، عديم اللّون، خاضعا. - هو يقرن « الشّعور بانحطاط المجتمع » بـ »يوطوبيا تكنولوجيّة »، واليقين بأنّنا نجري نحو السّقوط يحاذي عنده إيمانا ضمنيّا بتقدّم التّقنية. بإمكاننا مضاعفة هذه الأمثلة، وسنجد كثيرا مثلها بلا شكّ من حولنا أو بداخلنا نحن.بمثابة الخاتمة أخيرا، من يكون نرسيس؟ هل هو كاريكاتير؟ هل هو وصف لسلوكيات قابلة أحيانا للكشف، فينا ومن حولنا، بدرجات متفاوتة؟ لقد لاحظتم أو أحسستم بلا ريب بتناقضات عديدة في هذا العرض الّذي لا يقدّم نفسه باعتباره آية من الانسجام بل باعتباره تساؤلا عمّا يبدو أنّه يمثّل، في حياتنا الخصوصيّة وعلاقاتنا الشّخصيّة، نفس بنى الهيمنة الّتي نقوم بنقدها على الصّعيدين السّياسيّ والاجتماعيّ. لنعد ما قلناه مرّة أخرى : ليس الأمر سوى تأويلات للواقع الاجتماعيّ، تمّت انطلاقا ممّا فهمناه نحن من تحليلات ك. لاش. والثّمين في هذا العرض المختصر جدّا أنّه درس إلى أيّ مدى تمثّل وسائل الإعلام والنّظام السّياسيّ الحاليّ والعمل والمدرسة أو كذلك الإشهار عوامل تشجيع وتصريف منتجة للنّرجسيّة ومؤجّجة لها. بالفعل، نحن على قناعة بأنّ للنّظام الحاليّ كلّ المصلحة في تشجيع إنتاج عدد كبير من النّرسيسات. ويعتبر هؤلاء، بامتثاليتهم واستخفافهم، على المدى القصير، أحسن ضمان للنّظام القائم ولثقافة الاستهلاك الأبيقوريّة. لنترك كلمة الختام لكريستوف لاش : « هل من الإجرام أنّ المواطنين البيض المنتمين إلى الطّبقة المتوسّطة يلتذّون بفحص ذواتهم بينما يكافح مواطنوهم الأقلّ حظّا ويتضوّرون جوعا؟ على أنّه ينبغي أن نفهم أنّ النّاس يستغرقون في ذواتهم لا بسبب اللّذّة بل بسبب اليأس، وأنّ هذا اليأس ليس وقفا على الطّبقة المتوسّطة وحدها... إنّ انهيار الحياة الشّخصيّة لا يتأتّى من عذابات روحيّة مقصورة على الأثرياء، بل من حرب الجميع ضدّ الجميع، الحرب الّتي دائما ما جاشت في الشّرائح الدّنيا من السّكّان وها هي تنتقل الآن إلى بقيّة المجتمع... تظهر النّرجسيّة أساسا باعتبارها دفاعا ضدّ الدّوافع العدوانيّة أكثر منه حبّا للذّات. »* ملحق : النّضاليّة النّرجسيّة في الولايات المتّحدة، تميّزت السّتّينات بمعارضة اجتماعيّة قويّة. فبموازاة مع النّضالات التّحرّريّة للسّكّان السّود (القوّة السّوداء Black Power ، مارتين لوثر كينغ، الخ.)، كانت هناك حركات بيئيّة ونسائيّة ومثليّةhomosexuels ومناهضة للرّأسماليّة قد اتّسع نطاقها. وكانت هذه الأقلّيات القليلة التّنظيم، المنحدرة عموما من الطّبقات المتوسّطة والطّلاّبيّة، مستقلّة عن الأحزاب وترفض الأشكال النّضاليّة الكلاسيكيّة (الحزب الدّيمقراطيّ، النّقابات، الخ.).كانت تمارس أعمالا مباشرة، مثل مسرح الشّوارع أو أشكال أخرى من النّضال المبتكر، ومذهلة أحيانا (عمليات اختطاف، حرب عصابات الشّوارع، الخ). في كتابه ثقافة النّرجسيّة، يتساءل كريستوفر لاش عن الحوافز النّفسيّة الكامنة وراء بعض الجماعات المعارضة في تلك الفترة، ويحاول أن يقيّم إلى أيّ حدّ كانت النّرجسيّة المحيطة بها تخترقها. كانت بعض تعبيرات النّرجسيّة ظاهرة مثلا في إعادة إنتاج الهيمنة في صلب جمعيّات تندّد بأشكال الهيمنة (الزّعاماتيّة، قلّة الإصغاء، الخ.)، أوفي سعي بعض المناضلين إلى إثبات الذّات (كاريزما، راديكاليّة تمارس على نمط من المنافسة...)، أوفي أشكال بروز الجماعات الإحتجاجيّة (المظهر، المواقف، التّيمات، البحث عن المشهديّ...)، أوفي التّعصّب للهويّة، أو كذلك في قلّة التّفكير في نجاعة الأعمال المقدم عليها، الخ. لنوضّح أنّ هذه الانتقادات لم تكن تروم إضفاء الشّرعيّة على النّظام المهيمن بل تقديم عناصر للنّقد الذّاتيّ. كان الأمر يتعلّق بدعوة إلى عدم الاستهانة بما كان، في الممارسات النّضاليّة، لاحقا بالمخيال الرّأسماليّ المهيمن لذلك العصر. زد على ذلك أنّ « ثقافة النّرجسيّة » يأتي ليكمل مؤلّفات أخرى لكريستوفر لاش حول دراسة الحركات السّياسيّة اليساريّة. ومن أجل فهم أفضل لتأويلات ك.لاش، بدا لنا من المهمّ وضع هذه الانتقادات في سياقها التّاريخيّ، وذلك بإعادة نشر مقتطفات من آخر مؤلّف لسارج حليمي، « القفزة الكبرى إلى الوراء ». هذا الأخير يحاول أن يفسّر الأسباب الّتي جعلت في الأخير الحركات المعارضة الرّاديكاليّة في السّتّينات ذات تأثير ضعيف في المجتمع الأمريكيّ. كانت تلك الحركات في معظمها خرّيجة المركّبات الجامعيّة. فعدد من الطّلبة الرّاديكاليين، الرّافضين كلّيّا للحزب الدّيمقراطيّ (حزب يزعم انتماءه إلى اليسار في الولايات المتّحدة)، كانوا يأملون، من خلال نشاطهم، « تفشّي الانتفاضات ضدّ النّظام ». ولكنّ آفاق تفوّق يساريّ تقوّضت لأسباب ستنجلي في الولايات المتّحدة وغيرها : فالمعارضون لا يعرفون مخاطبة طبقات أخرى غير طبقتهم (أو مخاطبة محاورين آخرين غير وسائل الإعلام، وهما سيّان في الغالب)، إنّهم يريدون قبل كلّ شيء تعظيم راديكاليتهم، المحصورة أحيانا في حيّز ثقافيّ و »اجتماعويّ » صغير، وتعظيم تنسيبهم للهويّات وللاختلاط. وهم بامتناعهم عن أيّ خطاب جماعيّ، عن أيّ تأكيد ذي طابع كونيّ، لا يستطيعون مخاطبة مجموعات تختلف درجة وعيها عنهم. بل هم لا يحاولون ذلك غالبا. وكانت تفوح ضمنيّا، في صلب المطالب البيئيّة أو السّلميّة أو النّسائيّة أو المناهضة للرّأسماليّة، رائحة احتقار البروليتاريا. « كان الطّلبة، المحظوظون اجتماعيّا والمفتقرون إلى الإرث السّياسيّ، يرون في الطّبقة العاملة لبلدهم مجموعا من البرجزة والمادّيّة والجنسيّة والقوميّة والعنصريّة. » لكلّ هذه الأسباب، حسب سارج حليمي، ستكون الحركات المعارضة الرّاديكاليّة غير مثمرة. وبطريقة لاإراديّة، سيسرّع الطّلبة الرّاديكاليون في انقلاب البيض الصّغارsmall White نحو اليمين في ذروة فترة أزمة اقتصاديّة ناشئة. « احتقار اليسار الرّاديكالي للطّبقة الّتي زوّدته بجزء منه، عقدة استعلائه على الجماهير الجاهلة، رفضه الاعتقاد في النّوايا الحسنة لخصومه، تحفّظه المتنامي على جعل سياسته محلّ رضا الجماهير، كلّ ذلك سرّع في انصراف الملايين من الأمريكيين نحو اليمين : ربّات بيوت معارضات للحركة النّسويّة يتمسّكن يائسات، بفعل هلع الهويّة وبفعل الخوف من عالم ما عدن يفهمنه، بالأسرة التّقليديّة. عمّال وموظّفون بيض لا يستحسنون غالبا دروس التّسامح العرقيّ الّتي يسعى محظوظون، في أكثر الأحيان، إلى ترسيخها في أذهانهم... إجمالا، ملايين من الأفراد الجاهلين، الّذين يعانون ويخلطون بين من يعانون مثلهم ومن يعذّبونهم، يهجرون صفوف يسار يبدو كأنّه قد تخلّى عنهم، ومعه خطاب عن الخير المشترك. » عمليّا، سيستخدم الحزب الجمهوريّ الخوف من « الفوضى » الّذي تثيره في وجودهم المساواة الرّاديكاليّة والمظاهرات العنيفة والعصيان المدنيّ والحرّيّة الأخلاقيّة من أجل استمالة الطّبقات الشّعبيّة. وهكذا، فإنّ المعارضة الرّاديكاليّة ضخّمت صوت أولئك المنادين « بالقانون والنّظام »...ولا يمكن لأيّ كان يحاول تفسير ازدهار المحافظين الأمريكيين إلاّ أن يستند إلى هذا التّحوّل من موقع إلى آخر لقسم من الفئات الشّعبيّة. ينوّه بيار دومّارغ Pierre Dommergues إلى ما يلي : « هؤلاء الرّجال والنّساء ليسوا فاشيين... ولكنّهم بسبب البطالة وتدهور قدرتهم الشّرائيّة ينسون مثلهم، ويتمسّكون بامتيازاتهم الهزيلة، ويشكّكون في المكاسب المساواتيّة الّتي انتزعتها الأقلّيات في حقبة نموّ قويّ. شيء قليل كان كافيا لكي يتحوّل ضحايا القسوة هؤلاء إلى صفّ الرّجعيّة. لم ينجح اليسار في أن يبصّرهم. بينما يهديهم اليمين تفسيرا وأكباش فداء وطرقا عمليّة. » بموازاة ذلك، أخذت الطّاقة الإحتجاجيّة تنضب شيئا فشيئا. « فبينما كان يجب توسيع الحركة وتعبئة الّذين استسلموا ومكافحة نزعة الانكفاء العرقيّ والطّائفيّ، انفجرت الرّوابط. لقد توطّد النّظام لأنّ المعارضات كانت له بمثابة المادّّة المثيرة للشّهوة aphrodisiaques في عمليّة التّكييف، بمثابة المادّة المثيرة للأوهام hallucinogène في الماء الجاري. وبسبب غياب ثورة سياسيّة، أفضت اضطرابات السّتّينات إلى أسلوب جديد قابل للاسترجاع، مربح، ممتع، و »مطابق لذوق العصر ». وقامت « الثّورة الثّقافيّة البرجوازيّة الكبرى » كيفما كان، بإحياء نظام كانت تنوي الإطاحة به... وبكلّ تأكيد، سوف تفضي بعض الآمال المقترنة باليسار الجديد، كالكمال الفرديّ والصّدق والاستقلالية والإبداع ومعرفة الذّات والتّحرّر الجنسيّ، إلى ثقافة للنّرجسيّة سوف تطال مظاهرها الأكثر رداءة رجال الإشهار وسوف تعدي الحزب الدّيمقراطيّ (كما ظهرت في النّزاهة الأخّاذة المصطنعة لدى بيل كلينتون مثلا). »« لا ينبغي، رغم ذلك، الاكتفاء بالسّخرية من اليسار الأمريكيّ، والتّأكيد فقط على عزلته الاجتماعيّة، وعبادته المراهقة « للجيل »، ونقاشاته المملّة المضطرمة اضطرام فعله النّضاليّ المنحصر في محيط المكتبة الجامعيّة. إنّ مؤرّخا مثل ك.لاش، لديه قابليّة ضعيفة لتمجيد عبادة ممثّلي فكر 68 الكوكبيّ، اعترف لهم بأنّهم، في غياب تثوير المجتمع، أشاعوا في الكثير من النّاس شعورا بالأزمة، ووعيا بعجز النّظام عن تلبية حاجياتهم، وهو ما حوّل معجبين بالدّيمقراطيّة الأمريكيّة إلى نقّاد صارمين لها. » « يتضمّن الإرث كذلك أبعادا رائعة... مثل الحاجة الضّروريّة إلى ديمقراطيّة تشاركيّة، ورفض الرّأسماليّة المؤتمتة، المتسلّطة، المدمّرة للعلاقات الإنسانيّة، رفض « مجتمع الجماهير » الّذي يشتغل مثل آلة لإنتاج الاغتراب والخمول والوحدة... مقابل ذلك، دعا بيان بورت هيرون Port Huron إلى التّصويت لا فقط ببطاقة، بل بحياتكم كلّها. وكانت تلك الدّعوة بلا شكّ طموحة. أخيرا، كان اليسار ضحيّة سنّه أيضا. فالحركة الّتي كانت تطالب مناضليها بانخراط قويّ (« حياتكم كلّها ») رأت هؤلاء ينفصلون عنها حين يعملون ويتزوّجون وينشئون أسرة ويقتصدون ويستهلكون ويقيمون في الضّواحي المرفّهة غالبا، باعتبارهم قوّة تأطير لطبقة عاملة كانوا يتهكّمون عليها قبل عشرة سنوات لأنّها كانت تتجرّأ على تفضيل المطالب المادّيّة، وتريد بدورها أن تكسب لقمة العيش وأن تتزوّج وتنجب أطفالا وتقتصد وتستقرّ وتستهلك... » لندقّق أنّ هذه التّأويلات ليست كاملة. لقد وددنا فقط أن نقدّم توضيحا آخر لفكر ك.لاش. ففشل الحركات المعارضة في السّتّينات بالولايات المتّحدة لا يفسّر فقط بالنّرجسيّة الّتي كان أغلب الفاعلين فيها سجناء لها. إذ يمكن تقديم أسباب أخرى، وفي مقدّمتها القمع الشّديد الّذي تعرّضت له.النرجسيّة باعتبارها ظاهرة اجتماعيّةمقتطفات من كتاب »حول عبوديتنا اللاّإراديّة » De notre servitude involontaire لألان أكّاردو Alain Accardo، 2001 يعيد أيّ مجتمع إنتاج ثقافته- أي معاييره ومسلّماته الضّمنيّة وأنماط تنظيمه للتّجربة- في الفرد، في شكل الشّخصيّة. ومثلما يقول ديركهايم، الشّخصيّة هي الفرد المجمع المتشكّل اجتماعيّا( كريستوفر لاش) أنار علم الاجتماع الحدث الأساسيّ الّذي هو المجمعة Socialisation، أو الهيكلة المتزامنة للفاعلين الجماعيين (مجموعات من مختلف الأحجام والبنى) والفاعلين الفرديين (أعضاء من تلك المجموعات) الحاملين لخصائص متطابقة. من هذه الزّاوية، تفقد المقابلة الكلاسيكيّة بين فردمجتمع أيّ أساس لها ما عدا كونها اعتقادا ميتافيزيقيّا. إنّ نظاما اجتماعيّا ما، أيّا كان، يوجد دائما في الشّكل المزدوج الآتي : يوجد من حولنا في شكل موضوعيّ، في تكاثر المؤسّسات والأجهزة والمنظّمات والتّقنيات والتّراتيب والتّوزيع والتّقسيم والقواعد والقوانين، الخ.، ويوجد بداخلنا في شكل مجموعات مهيكلة، مترابطة ومتناغمة تقريبا، وتدابير فرديّة وأهواء وميولات وحوافز وكفاءات واستعدادات للعمل في مثل هذه البيئة الموضوعيّة. ولكي يشتغل أيّ نظام اجتماعيّ ويتجدّد، لا بدّ أن يكون هناك تلاؤم بين بنى خارجيّة وبنى داخليّة شكّلها تاريخ واحد. [...]يتشكّل أنانا انطلاقا من البنى الموضوعيّة الموجودة : فمن خلال مجمعته، يستبطن الفرد منطق اشتغالها ويستوعب نماذجها ومعاييرها، على مرّ الخبرات المرتبطة بمساره الشّخصيّ. لا يمكن لمجتمعين مختلفين، أو لفترتين تاريخيّتين مختلفتين لنفس المجتمع، أن تشكّل نفس طراز الفرد. بالمقابل، كلّما بنى الفرد نفسه، إلاّ ونزع نحو الاستقلالية النّسبيّة وردّ الفعل تجاه البنى القائمة لإعادة انتاجها وتغييرها معا بدرجات متفاوتة. ذاك هو المضمون السّوسيولوجيّ الأدنى المفروض إعطاؤه لمفهوم « اجتماعيّ »، ومن دونه لا يمكن لدراسة الأحداث الاجتماعيّة إلاّ أن تتورّط في تناقض غير قابل للحلّ بين خارج لا علاقة له بداخل، وداخل لا صلة له بخارج. [...]هكذا إذن، حين نعلن عن عدائنا « للنّظام الرّأسماليّ »، وتنصبّ كلّ انتقاداتنا الّتي نصوغها حصرا على بناه الاقتصاديّة- السّياسيّة المموضعة، فمن الواضح أنّ تحليلنا توقّف عند منتصف الطّريق وأنّنا نسينا أن نتساءل عن القسم المستبطن فينا من النّظام، أي عن كلّ شيء بداخلنا يساهم في تشغيل تلك البنى ، المتسبّبة في الكثير من الخسائر من حولنا. ذلك أنّه في آخر الأمر، لا تستطيع تلك البنى الاقتصاديّة- السّياسيّة أن تعمل دون مؤازرة ممّا سمّاه بعض علماء الاجتماع « روح الرّأسماليّة »، أي دون موافقة ذاتيّة من الأفراد الّذين يدفعون، بعيدا عن الأفكار الواعية والمشاعر الظّاهرة، بأكثر الجوانب عمقا ولاوعيا في شخصياتهم كما تشكّلت من خلال مجمعتهم في النّظام. [...] إذا كان نظام ما ينتجنا (أو يساهم في إنتاجنا) على أنّنا أعضاء في جماعة معيّنة في زمن معيّن، فذلك يعني أنّ الشّروط الاجتماعيّة الّتي نستبطنها بداخلنا، عن طريق آليات مازلنا بعيدين عن استجلائها كلّيّا، تصبح حقّا من لحم ودم. إنّ ما هو اجتماعيّ ينغرز في كلّ فرد، وتلعب شروطه فيما يتعلّق بطريقتنا في الوجود ، بمجرّد أن تمتزج بذواتنا، نفس الدّور الضّروريّ واللاّمحسوس الّذي تلعبه عظامنا وأوتارنا في تحرّكنا(...)]، لم تعد تلك الشّروط تحسّ باعتبارها ضغوطا خارجيّة بل باعتبارها حركات تقع نقطة انطلاقها في القرار العميق لأنانا(...) من الممكن دائما إجبار جموع من الفواعل الاجتماعيين على الطّاعة باللّجوء إلى القمع المتفاوت الشّدّة. غير أنّ نظاما لا يشتغل إلاّ بالقهر لن يكون قابلا للاستمرار طويلا. ومن أجل تجنّب الانزعاج المستمرّ، يحسن قولبة الأجساد و »الرّوح » الّتي تسكنها بصورة دائمة. ومن أجل الإطالة من عمر نظام ما، لابدّ بالضّرورة لأولئك الّذين يقومون بتشغيله أن يكونوا مهيّئين لفعل ذلك بملء إرادتهم، على الأقلّ فيما يتعلّق بما هو أساسيّ. وكلّما كان موافقتهم تلقائيّة قلّت حاجتهم إلى التّفكير للطّاعة، وكان النّظام في صحّة أفضل(...) هكذا يمكننا أن نفهم بطريقة أفضل لماذا أعتبر أنّ نقد نظام رأسماليّ ما لا يمكنه أن يتمسّك بالأساليب التّقليديّة للنّضال الاقتصاديّ والسّياسيّ، وأن يقنع باتّهام البنى الموضوعيّة للنّظام القائم (مثلا، سوق الرّساميل الماليّة غير الخاضعة للرّقابة، أو سياسة خصخصة الخدمات العموميّة، أو الطّابع التّكنوقراطي للبناء الأوروبّيّ، الخ)، بل عليه، علاوة على ذلك وفي الآن نفسه، أن يتّهم النّصيب الّذي نحمله شخصيّا، حتّى، بل خاصّة، إن لم يكن قصديّا، في المسيرة « لجيّدة » للجميع. إنّ هذه العودة الارتجاعيّة لنقد النّظام إلى ذاته هي عمليّة صعبة لأنّها ستصدم بكلّ تأكيد، في المقام الأوّل، نقاوة سريرة معارضي النّظام، الّذين يظنّون عموما أنّهم قد قاموا بما يكفي بتشهيرهم بالطّابع المؤذي للبنى الموضوعيّة للنّظام الرّأسماليّ، وبرفضهم الانخراط الجليّ فيها، من دون حتّى أن يرتابوا فيما يمكن لمثل هذا الموقف النّقديّ، بسبب طابعه الجزئيّ بالذّات، أن يساهم في عمل النّظام.
- المصدر : الإعلام السّخيّ Les renseignements généreux أكتوبر 2006.- أبرز مؤلّفات كريستوفر لاش : 1- احتضار اليسار الأمريكيّ The Agony of the American Left 1969 . 2- ثقافة النّرجسيّة Culture du narcissisme، الطّبعة الأولى 1979. 3- ثقافة جماهيريّة أم ثقافة شعبيّة Culture de masse ou culture populaire 2001.4- الفردوس الوحيد والحقّ Le seul et vrai paradis، 2002. - بعض المراجع ذات الصّلة:1- القفزة الكبرى إلى الوراء Le grand bond en arrière ، سارج حليمي 2004 . 2- عن الإيديولوجيا اليومDe l’idéologie aujourd’hui فرنسوا برين، 2004. 3- السّعادة المطابقة للأصل Le Bonheur conforme ، فرنسوا برين، 1996. 4- البرجوازيّ الصّغير النّبيلLe petit-bourgeois gentilhomme ، ألان أكاردو، 2003. 5- حول عبوديتنا اللاّإراديّة De notre servitude involontaire ، ألان أكاردو،2001
Commentaires