تعليم الجهل في مجتمع المعلومات - سمير بسباس

L’enseignement de l’ignorance (extraits) de J.-C. Michéa
lundi 13 juin 2011
par  LieuxCommuns

 في كتابه « تعليم الجهل » (L’enseignement de l’ignorance) يتعرّض المفكّر Jean Claude Michéa :Jean Claude Michéa, L’enseignement de l’ignorance , Climats, 1999

إلى الاستنتاج الذي خلص له 500 رجل سياسي من روّاد النشاط الاقتصادي والعلمي في العالم وذلك سنة 1995 تحت إشراف مؤسّسة غورباتشيف. فلقد أقرّوا بصفة قطعيّة ولا تقبل النقاش أنّ قرننا الجديد سيحتاج فقط لعُشُرَيْ (2/10) سكّان العالم وذلك للحفاظ على النشاط الاقتصادي للعالم. على ضوء هذا التقرير يصبح السؤال الملحّ هو : "ماذا سنفعل بالـ80% من السكّان الزائدين على اللّزوم وغير المجديين. هل سنتخلّص منهم؟ هل سنعدٌ لهم برنامجا خاصّا وهل سيمثّل هؤلاء وزرا على الأقلّيّة النشطة والفاعلة؟. أخيرا تفطّن برجنسكي مستشار الرّئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر للحلّ. إنّه على حدّ تعبيره The tittaynment أي لنتركهم وشأنهم.  تقتضي هذه الخطّة صياغة وصفة خاصّة للأغلبيّة تكون خليطا من اللّهو الفارغ وبلادة الذّهن وتوفير الطعام الضروري وذلك كي يحافظ هؤلاء « الزائدون على اللّزوم » على بشاشتهم وإحساسهم بالغبطة في عالم يعرف تثبيط المعنويات والإحباط. لنجعلهم يعيشون في انشراح وزهو وذلك عملا بالمثل العربي المعروف : « وأخو الجهالة في الجهالة ينعم ». كيف سيكون نظام التعليم وبلغة الاقتصاد كيف ستكون كرّاس شروط تلقّي المعرفة التي ستخصّص لكلّ فئة من هؤلاء.

بطبيعة الحال لكلّ نصيبه وحظّه وحصّته، فلا يمكن أن نساوي بين من فاز سهمه من المعارف والحكمة وبين من فاض جهله. فالكثرة لأصحاب العقل واللّبّ والنحيزة، أمّا الفتات والنزر والتافه والزهيد والطفيف فللجاهل والرّكيك والمأفون. من أراد المعرفة الراقية عليه بالوجاهة والنباهة وأن يشدّ الرّحال إلى المراتب السَّنية، أمّا الخَمُول والأبله فلا أمل له باللّحاق بركب العلوم المعاصرة والنهل من المعارف الجديدة. كيف تتجسّد هذه الخطّة الحكيمة؟ يقول برجنسكي : أوّلا : علينا تعريف قطب الامتياز أي هؤلاء الذين بمقدورهم التشبع بالمعارف الدّقيقة والعميقة والخلاّقة والذين يتميّزون بسعة النّظر وبقدرة على إعمال الفكر والتمحيص والابتكار وهؤلاء يمثلون على أقصى تقدير 5% من سكّان المعمورة. ثانيا : بالنسبة لأصحاب القدرات الذهنيّة المتوسطة علينا إعداد معارف سريعة التآكل (jetables) وغير ذات جدوى بحيث يتأقلم هؤلاء مع المعارف المتوفّرة ويتقبلونها في كلّ مرّة. هؤلاء لن يطالبوا بالخلق والابتكار ولن يسمح لهم باستقلال الفكر بل بالحفظ والاستجابة والتطبيق. يمكن لهم أن يحصلوا على معارفهم بواسطة تقنيات الاتصال والإعلام. ثالثا : أخيرا وبالنسبة للأغلبيّة المتبقيّة أي هؤلاء الذين لا يستقرّون عل علم أو مهنة أو اختصاص والذين لا يمثلون سوقا مربحة والمعرّضين للتهميش بأعداد متزايدة فإنّه من غير المجدي أن نقدّم لهم معارف ومعلومات لأنّ ذلك سيكون شديد الكلفة ولا طائل منه بل قد يمثّل ذلك خطرا على استتباب الأمن الاجتماعي. لهؤلاء « تعليم الجهل » على حدّ قول الفيلسوف « Jean Claude Michéa » . تحضرني في هذا المقام قولة شهيرة لفيلسوفنا العربي ابن رشد : « يجب أن لا نثبت التأويلات إلاّ في كتب البراهين لأنّها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلاّ من هو أهل البرهان » (فصل المقال)، إذن هناك الخاصّة من الفئة النيّرة والعامّة الخرقاء التي لا رجاء من تثقيفها وإطلاعها على المعارف المتقدّمة. يقول المفكّر « Guy Debord » : « يعمل المجتمع الجديد على تعليم العامّة العجز عن التفريق بين ما هو مهم وما هو تافه وغير ذي قيمة ».

إذن علينا بتهيئة كل الظروف لترويج المعارف العلميّة والتقنيّة في أوساط النخبة التي ستكون الأداة الفعّالة لفرض منطق العولمة الجديد، أمّا الـ 95% من البشر فنصيبهم من الحياة المعاصرة مشهد. ستتكفّل القلّة النيّرة بتسيير الأمور وتوجيهها الوجهة الصّحيحة. أليست هذه مدينة أفلاطون الفاضلة التي يحكمها علماء مقتدرون؟ ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لنحتكم للقدر الوراثي. لكلّ جيناته، فثمّة من هو مهيّأ بالطبع للعلوم والمعارف وثمّة من كانت جيناته فقيرة ورثّة وهذه حكمة الزمان ولا نقدر على ردّ أمر لا حيلة لنا فيه.

يجرّنا الحديث عن تعليم الجهل إلى ما يعرف اليوم بأزمة التعليم التي تعصف بالبلدان المصنّعة وببلدان الجنوب. فنحن نعاين تراجع المستوى الثقافي والعلمي للتعليم الذي يراد منه إنتاج النخب وتكوين التلاميذ وفقا للاختيارات والتوجّهات التي ذكرناها.

في مجتمع المشهد والصّورة والمعارف المتآكلة المعدّة للغالبيّة أصبح المعلّم أو الأستاذ منشّطا وفقد دوره التربوي والبيداغوجي. لقد تحوّلت المعاهد إلى مراكز لتعليم الجهل على حدّ قول « Jean Claude Michéa » بحيث تضاءلت القدرة النقديّة للتلميذ وذلك بالتوازي مع تضخّم بنوك المعلومات. يشير نفس المفكّر إلى إفلاس سياسة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكيّة ويشخّصها كما يلي : « مدارس ابتدائيّة تنتج ملايين الأمّيين وتعليم ثانوي يسمح للتلميذ باختيار خليط من النشاطات وتعليم عالي يستقطب »أحسن« التلاميذ »أنجبهم« و »أحسن« الأساتذة الأجانب لمراكمة أكبر عدد ممكن من جوائز نوبل. إنّه تعليم يسير بنسقين... ». يعود بنا المفكّر إلى كتابات Christopher Lasch حول النرجسيّة وعن المجتمع الجديد : « لا يريد المجتمع كثيرا من العقول القادرة على الخلق وعلى تسيير الآلات ولكنّه بالمقابل يبتغي عددا هامّا ومتزايدا من الأميّين لكي تستغلّهم آلات الدّعاية والإعلام وتبث فيهم سمومها... ».

باسم التقدّم ومواكبة العصر وتوفير نفس حظوظ النجاح وتوحيد المناهج اتفق اليمين واليسار على القضاء على ما يعرف في البلاد الأوروبيّة بالتعليم الجمهوري. ففي حين اعتقد المحافظون أنّه لا يمكن إيصال المعارف المتقدّمة لعامّة الشعب الذين يفتقدون القدرة على التفكير والتمييز والتعبير بوضوح فلقد عمل الرّاديكاليون على الحطّ من مستوى التعليم بدعوى تمكين الغالبيّة من المعرفة. فالدعوة إلى التحرر المبالغ فيه والتخلص من كل ضغوط المجتمع والتي واكبت حركة الشباب في السنوات الستين في أوروبا قد ساهمت في بروز العقلية النيوليبرالية الفاحشة بل أننا نجد أن من بين زعماء وأقطاب النيوليبرالية ودعاة العولمة زعماء سابقين في هذه الحركة اندمجوا في الأجهزة البيروقراطية وبدؤوا يروجون للتوجهات الجديدة. فاليوم تتوجّه العولمة إلى جيوب المقاومة المتبقيّة : الثقافة، التعليم والفلاحة. تماما كما توصّل لذلك المفكّر اليوناني Costoriadès يخلص Jean Claude Michéa إلى أن المجتمعات المعاصرة ما كان لها أن تستمرّ لو لا اعتمادها على هياكل انثروبولوجية وبيئيّة سابقة (كالضمير المهني وإتقان العمل وحب المطالعة والشرف...) وهي اليوم تقطع الغصن الذي تجلس عليه.

مفارقة هذا العصر هو أنّه بقدر ما يتشنّج الخطاب حول معجزات القرن فيوصف المجتمع المعاصر بمجتمع المعرفة ومجتمع المعلومات وبقدر ما تطنب وسائل الإعلام في الحديث عن الثروة الرقمية بقدر ما نعاين تراجع الثقافة عامّة ولا نقصد بذلك الأدب والفكر والفنّ فقط بل كلّ مجالات المعرفة، وهذا ما دفع بالمسؤولين في الشمال والجنوب إلى إقرار إصلاحات في التعليم لم تنفكّ منذ عقود لكن دون أن تبلغ الأهداف والمرامي المرجوّة. « لتتفتّح المدرسة على المجتمع والمحيط الخارجي ! لنجعل منها مصنعا للمعارف والتقنيات ! من تحكّم في المعرفة تحكّم في كلّ شيء !... ». خلف هذه الشعارات الجوفاء تختفي حقائق مهولة وصارخة لعلّ أهمّها تدنّي المستوى التعليمي والثقافي. ففي فرنسا ما بين 15% و20% من التلاميذ المحرزين على الشهادة الابتدائيّة لا يقدرون على القراءة. في دراسة نشرتها مؤخّرا جريدة « واشنطن بوست » يشير صاحب الدراسة إلى أنّ الغالبيّة من التلاميذ الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة لا يعرفون أين توجد العراق هذا البلد العربي الذي تحتله دولتهم كما أنّ نصف هؤلاء التلاميذ يعجزون عن تحديد موقع نيويورك في خريطة الولايات المتحدة الأمريكيّة بينما كانت إجابة 30% من هؤلاء التلاميذ حول سؤال يتعلّق بعدد سكان الولايات المتحدة الأمريكيّة بأنّه يساوي مليارا و20 مليون نسمة !

هكذا يفرز التعليم العصري جيلا منقطعا عن ماضيه وحتى حاضره. في ملف أعدته مجلة L’opinion الفرنسيّة نقرأ ما يلي : « أصبحت مهمّة المعاهد تتجسّد في إنتاج »علوج« أو »تلاميذ-حرفاء وزبناء« لا يحذقون سوى 50 تعبيرا تمكنهم على أقصى تقدير من بعث إرساليات إلكترونية عبر الجهاز المحمول (SMS) أو من الترشّح لبرنامج »ستار-أكاديمي« . تقف وراء هذا الانهيار المريع إرادة جامحة لفبركة »تلاميذ زبائن« يتلخّص دورهم في تنشيط سوق التعليم وهو أكبر سوق للقرن الواحد والعشرين حيث يبلغ رقم معاملاته الدولية 90 مليار دولار (إحصائيات سنة 2002) وتقدّم لهؤلاء التلاميذ »بضاعة – تعليميّة" ومعلومات متآكلة Jetables.  يشخّص المفكّر Jean Claude Michéa حقيقة سياسات التعليم فيقول : « لقد تقدّم الجهل أشواطا ولا يعود ذلك لخلل أو لأخطاء طبعت سياسات التعليم. إنّ تعليم الجهل شرط من شروط بقاء المجتمع »...فلقد أصبحت المعاهد تنتج جهلة غير واعين بجهلهم...« . بالنسبة للمسؤولين عن سياسات التعليم يكمن الحلّ في تعميم الحواسيب والإنترنت في المعاهد. لكن هذه الوسيلة تضلّ مكمّلة ولا يمكن لها بحال من الأحوال أن تعوّض قدرات التلميذ واستقلاله الفكري، فحتّى وإن وفّرت هذه التقنيات النّصوص والمعلومات بغزارة لم تشهدها العصور السابقة كيف لتلميذ لا يحذق القراءة والكتابة ويفتقد القدرة على التّمييز أن ينتفع من هذه التّقنيات. لا يمكن أن تنحصر الحلول في حلول تقنيّة بحتة، فالحواسيب لا تعوّض العلاقة المباشرة بين التلميذ والنّص. هناك خلط مقصود بين المعلومات والمعارف وهذه الأخيرة تُكتسبُ بمجهود خاص وبتطوير القدرات الذهنيّة على التحليل والتّفكير والنقد والبناء والخلق والابتكار وقديما قيل : »العلم في الرّأس ليس في الكرّاس.

لقد تحوّلت المعاهد إلى ما يشبه السّوق، ففي الولايات المتّحدة الأمريكية سمحت آلاف المعاهد لقناة Chanel One ببثّ برامجها التلفزيّة وومضاتها الإشهاريّة حول المشروبات الغازيّة والهمبرغر، بينما وفّرت مؤسّسة Zapme مجانا حواسيب للمعاهد مع اشتراك في الإنترنت مقابل التزام مديري المعاهد بأن يفرضوا على التلاميذ استعمال Zapme لوقت لا يقلّ عن 4 ساعات في اليوم. في بريطانيا دخلت شركة Capital Stratégies البورصة وأقرّت علامتها المصرفيّة Education U.K.. حقّقت مضاربات هذه المؤسّسة في البورصة أرباحا تعدّ بثلاث أضعاف رأس مالها وذلك في ظرف 4 سنين وهي تعرف ارتفاعا سنويّا يقدّر ب240%. حتّى عمليّة مراقبة التعليم لم تعدّ تخضع لتفقديّات وزارة التعليم بل أوكلت إلى شركات خاصّة من جملة مهامّها توفير الأساتذة البدلاء.

هكذا إذن تحوّلت المعاهد إلى Fast-Food أو همبرغر المعرفة. « تعليم الجهل » هو أحد مرتكزات ودعائم مجتمع المعلومات !

سُئِل أحد المفكّرين المهتمّين بقضايا البيئة وجاء السّؤال كما يلي :« كيف سنترك هذا الكون للأجيال القادمة؟ » أجاب :« ليس هذا هو جوهر السّؤال، السّؤال الحقيقي هو : لمن سنترك هذا الكون ».


Commentaires

Navigation

Articles de la rubrique

Soutenir par un don