الضحك لغة العالم

Le rire langue universelle
dimanche 15 mai 2011
par  LieuxCommuns

قد يتساءل البعض عن الجدوى من التطرّق لمثل هذا الموضوع وقد يبدو ذلك أمرا شرعيا مادامت هناك قضايا أهمّ وأخطر من الضّحك. لكننا نعتقد أنّ كلّ القضايا تتساوى وتتداخل وتؤثر على بعضها كما أن معالجتها تفتح المجال لدراسة قضايا أخرى.

نحن نعيش عصرا تراجع فيه الوقت المخصّص للضّحك وهذا بشهادة الدراسات الميدانية التي أثبتت أن الضحك أصبح مادّة نادرة. بالمقابل ارتفعت نسبة الإصابة بالأمراض العصبية كالانهيار العصبي وحالات التشنّج وتدّل على ذلك الكميات الضخمة من الأدوية المهدّئة المستعملة وانتعاش سوق الأمراض العصبيّة بصفة عامة.

الضحك هو تصرّف فطري فردي واجتماعي يرتبط بمؤثرات خارجية مباشرة وملموسة ومعاينة أو يمكن تصوّرها واستحضارها. يَنتج عن الضحك تنشيط عضلات الوجه والجسم وتسارع في حركة التنفس.

قد تتعدّد أسباب الضحك وتتغيّر أساليبها وطرق تعبيرها من البسمة إلى القهقهة ودلالتها ويمكن القول أن الضحك وسيلة للتواصل بل هو كاللّغة لا تنفصل عن تكوين المجتمع رؤية وأهدافا وأساليب عيش وعلاقات. لقد اكتشف المختصون والباحثون إيجابيات للضحك من ذلك التأثير الإيجابي على الصحّة وعلى القلب والشرايين بصفة خاصّة. الكلّ يضحك وكلّ بأسلوب خاصّ من الرّضيع إلى المسنّ وفي كلّ أصقاع العالم مهما اختلفت اللّغات والعادات. بصفة عامّة وفي أغلب الحالات يكون الضحك نشاطا لا إراديا. فمن الصعب الضحك حسب الطلب وبأمر، كما أن الضحك ظاهرة لا ترتبط مباشرة باللّغة والخطاب بما أن الرّضيع يضحك قبل أن يتعلمّ الكلام وبمجرّد مداعبته.

في الحقيقة ليس الضحك تصرّفا خاصّا بالبشر ولكنه أيضا يخصّ الإنسان البدائي وبعض الحيوانات. فلقد لاحظ شارل داروين أن عديد أنواع القردة والفقريات ترسل أصواتا منسجمة ومتناسقة تحاكي الضّحك. قامت أخيرا السيدة Marina.Davila.Ross المختصّة في دراسة الحيوانات وعلم النفس ودراسة العلاقة بين الإنسان البدائي والبشر من جامعة Portsmowth ببريطانيا، بدراسة شملت حدائق الحيوانات وقامت بتسجيل 800 نوعا من الضحك لدى 22 غوريلا وبعام وقرد « اليونوبو » وقرد السّعلاة و« السيامنغ » في سنّ مبكّرة من نموّها ولاحظت أنّها تضحك بمجرّد دغدغة أياديها أو رجليها أو إبطيها.

وقعت مقارنة هذه الضحكات مع ضحك البشر وتوّصل الفريق العلمي إلى استنتاج مفاده أنّ الضحك ليس خاصيّة جديدة وهي ظاهرة لا تقتصر فقط على البشر. فهو تصّرف يندمج ضمن النموّ الطبيعي للنوع وذلك منذ 10 إلى 16 مليون سنة خلت. لكن بماذا يختصّ ضحك البشر هذا الكائن الاجتماعي والتاريخي والمنتمي لثقافات وحضارات؟ يتميّز ضحك الإنسان عن ضحك القردة بما أن الأوّل قد عرف نموّا متسارعا خلال الخمس ملايين سنة الأخيرة. لكن رغم هذه الاختلافات فهناك نقاط تشابه بين القردة والبشر. فالغوريلا على سبيل المثال تضحك 3 أو 4 مرّات متتالية وهذه خاصية قريبة من تصرّف البشر.

يعتبر البعض أن للضحك قدرتين متباينتين :

يمكن للضحك أن يعبّر عن التسلّط والاستعلاء والاستهزاء. يلتقي هذا الموقف مع رأي الفيلسوف برجسن الذي اعتبر أننا نضحك من الغير عندما يوجد في وضع غير ذلك الذي نترقّبه كأن نضحك من قاضي يسقط أو أستاذ يتعثّر. إنه الضحك المتعارف الذي يستند على ذلك الاختلاف بين الإنسان وبين الحالة التي يقع تصوّره فيها. يمكن أن نضحك من شخص يتصرّف بصفة مخالفة للمعهود والمتفق عليه. « إنه الضحك البورجوازي المهين والساخر والذي لا يعلّم الذات أي شيء سوى الاستهزاء من الغير ».

بالمقابل يميّز البعض الضحك « السيادي » ذاك الذي يعلّم الإنسان التحكّم في الذات. ينصح روسو بتعليم إيميل الضّحك كلّما دخلت مكانا مظلما. فهذا الضحك يجعل الطفل قادرا على تجاوز خوفه من الظلام. إذن يمكن للضحك أن يساعدنا على التخلّص من قوى الخوف التي تسكننا. لكن هذا الدور السّيادي يتجاوز هذه الحالة الخاصة. فالضحك السيادي الفاعل في شخصيتنا يجعلنا نبتعد خطوات عن ذواتنا لنكتشف عيوبنا وحدودنا وحدود فكرنا وممارستنا ونقرّ بكلّ تواضع أن الحقيقة غير ثابتة ومتحرّكة (وهذا لا يعني أنّها وهمية أو مجرّد تخمينات بحيث يصبح كلّ شيء جائز كما تقرّ بذلك نظرية « فايربند » الفوضوية للمعرفة). يمكّننا الضحك بأن نقرّ بأن التوحّد والثبات والجزم والإقرار ليست سوى لحظات ما تلبث أن تنساب. فالاعتراف بهذه الحقيقة هو في الواقع وعكس ما يتراءى للبعض هو تمكّن وقدرة وهو انفتاح على الجديد والمغاير. فالضحك شكل من أشكال تجاوز الذات الصارمة والحازمة والجديّة والثابتة ومن تجاوز الأحكام القطعية. ما هو موقف الفلاسفة ورجال الدين وأصحاب الإيديولوجيات الجاهزة من الضّحك؟

يعتبر أرسطو الإفراط في الضحك مصدرا للفوضى والبذاءة والوقاحة وعدم اللّياقة. « نحن نضحك على من هم أقلّ منا وعلى الأشخاص القبيحين ونحن نفرح لشعورنا أننا ننتمي لطبقة أرفع منهم ». كذلك يرى أرسطو أن الضحك المتهوّر والساخر هو خاصية للمزارعين والعبيد والمجانين والأطفال والمسنّين. يقول أرسطو :« إن الكوميديا هي تقليد للأشخاص الأقل منا قيمة وأحقر ولا يشمل ذلك العيوب ولكن يقتصر على تلك التي تبعث على الضحك ». لكن هذا التعريف يتجاهل حقيقة أن الإنسان قادر على التهكّم حتّى من الآلهة كما كان يحدث ذلك في اليونان القديم. أمّا سقراط فهو يعتبر أنّ « السخرية تنبع من تجاهل الذات ».

أرستوفان يضحك من الأشياء وحتى من الأشخاص الذين يحقّرهم. فلقد تهكّم وضحك أيضا من سقراط الذي يعرفه ويقدّر قيمته وقد جمعهما أفلاطون في المأدبة. فبينما كان أرسطو يرى أن التراجيديا تتطلب تقليد حركات البطل إلى حدّ التماهي والتماثل معه وهذا عكس التمثيل الهزلي الذي يفترض التقليد الباعث على السخرية والتحقير فإن أرستوفان لم يقتصر على السخرية من الأشخاص الذين يحقّرهم بل كان يسخر أيضا من سقراط وهذا لا يعني البته أنه يحقّره. فشهرة سقراط جعلت منه بمثابة سلطة فكرية وأخلاقية وبالنسبة لأرستوفان كلّ سلطة هي مبعث للضّحك. يتعرّض أرستوفان لكلّ الانحرافات السياسية والاجتماعية في مسرحياته. من جملة المواضيع التي تطرق لها نذكر الإضراب الجنسي للنساء كي يعزف الرجال عن شنّ الحروب والتقاتل ويعتبره أرستوفان « فنّ السلم » في عصر الحروب. يرى أرستوفان أن مصادر الضحك عديدة منها اللّذة والغبطة والشعور بالبهجة عند القيام بوليمة أو احتفال ولذّة الحب والإحساس بالتخلّص من الخوف والارهاق والأوجاع وكذلك الإلتقاء بعد فراق. « الضحك هو الأداة المثلى للسلم ». أرستوفان هو من أسس فن الكوميديا بلا منازع وقد كتب 40 مسرحية كوميدية لم يصلنا منها سوى إحدى عشر مسرحيّة.

أما أفلاطون فلقد اعتبر الضحك « أوجاع النفس ». فالضاحك يسخر من الآخر الجاهل والمتوهّم أنه عالم والفقير الذي يعتقد أنه غنيّ والقبيح الذي يعتقد أنه جميل والأبله الذي يعتقد أنّه حكيم... هذا الضّحك مؤذي وسلبي وغير عادل إذا تعلّق موضوعه بالأصدقاء والأقارب. لكنّه شرعي ومحبّذ إذا تعلّق الأمر بالأعداء. يدين أفلاطون الضحك الذي يصدر عن المسؤولين عن المدينة مثل القضاة. كما ندّد أفلاطون بالضحك من الآلهة (سخرية « هومير » من الآلهة) لأنّ هذا الضحك يعبّر عن عجز الشخص عن التحكّم في نفسه وهذا غير خليق بالنبلاء والأحرار وهو يشكّل خطرا على الاتفاقات والأعراف.

في اليونان القديم كان Dionysos إله الإغريق الذي يسهر على الاحتفالات. فهو إله العنب والسّكر ويمثّل فرحة الحياة والضحك دون توقّف وعوائق. بالنسبة للبعض هذا الإله خطير وفوضوي وغريب وأمره محيّر. فهو في صراع ضدّ جمال أبولون Appolon إله التناسق الرصين والهادئ. أما ديوجين فهي تجسّد العدوّ الأوّل بلا منازع لأفلاطون. فهي مشرّدة ومتفسّخة وسكيرة ومثيرة للغرائز وتدّعي التصرّف بطريقة مناقضة للجميع. هي ضدّ الملكية والزّواج وتلعن السياسة والسياسيين وتنعت الكهنة بشتّى الأوصاف وتتهمهم بالكذب وتمقت حياة الأغنياء وتدعو إلى منع استعمال الأسلحة. خلف ضحكها الساخر والعنيف في آن، يختفي حبّ عميق للنّاس وتعاطف معهم. فهذا الضحك ينير الحياة البشرية ويدفع الناس إلى التفكير.

كان ديمقريطس الفيلسوف وعالم الرّياضيات كثير التجوال والترحال وكان يضحك لمقاومة المبهم واللاّمعقول :« نحن لا نعلم شيئا، الحقيقة في قاع البئر ». يسخر ديمقريطس من جشع وبخل التجار ويعتقد أنّ الآلهة قد خلقت الكون وهي تضحك لذلك كان يعارض هيراقليطس المعروف بكثرة البكاء بل أن ديمقريطس يذهب إلى أن التفلسف هو بالأساس تعلّم الضّحك.

أمّا هيبوقراط فقد اعتبر الضحك وسيلة للتخلّص من الحالات العصبيّة ونوعا من العلاج. بخلاصة لقد اهتم الفلاسفة الأثينيون بالضحك وأفردوا له كتبا ومقالات وفصولا ولقد تميّز أفلاطون بإدانته للمزاح والضحك والسخرية من الغير ومن الحقائق الثابتة علما بأن أفلاطون كان من ندّد بالنظام الديمقراطي واعتبره مُفلسا ودعا إلى المدينة الفاضلة التي يحكمها فيلسوف أو عالم لأنّ العامّة عاجزون عن إدارة شؤونهم بأنفسهم ويلزمهم قائد فذّ يسوسهم.

في العصور الوسطى، أعتُبر الضحك أداة لخلخلة أساس السلطة القائمة. فلقد كان رجال الكنيسة يرَون أن الضحك يؤدّي للأعمال الرذيلة والساقطة. في القرن الثالث عشر وقع استدعاء الفقهاء ورجال الدين إلى « السربون » وذلك للإجابة عن السؤال التالي :« هل ضحك المسيح؟ ». أجاب الفقهاء أن لا أثر للنّكت في الأناجيل ولذلك لا بدّ من إدانة السخرية والمزاح. لكنّ هذا التأويل مبالغ فيه إذ ورد الضحك في الإنجيل ولربّما كان إسحاق يشير إلى الضحك (إضحاك؟). قدّمت الكنيسة تنازلات وقبلت بالكرنفلات واعترف رجال الدين بدور الضّحك في التواصل بين الناس وتجاوز الصّعاب لكنّهم أكّدوا على ضرورة تفضيل التبسّم والضحك الخفيف الذي لا يُسمع على الضحك القويّ والقهقهة. ما هو موقف فلاسفة عصر النهضة والفلاسفة المعاصرين من الضحك ؟

يعتبر بودلير الضحك متناقضا في جوهره. فهو علامة على العظمة المطلقة وعلى الحقارة اللاّمحدودة. الإنسان كائن يتحوّل بين حالتين متناقضتين : كائن مطلق وربّاني من ناحية، وحيوان من ناحية أخرى. عندما يضحك الإنسان فإن جانبه المطلق والرّباني هو الذي يسخر من جانبه الحيواني. لكن هذه السخرية من الذات تظل مستقلّة وخارجة عن الذات :« إنّها في الإنسان وهي نتاج لفكرة التعالي المطلقة للإنسان » ولهذا فإنّ هذا التصرّف شيطانيّ. لكن بالمقابل فإن الضّحك ينمّ عن وعي للذات بذاتها وطبيعتها الحيوانية.

من المعلوم أنه بعد العصور الوسطى ظهرت العناية بالضحك منذ هوبز وذلك بالأخص في أوساط الفلاسفة الإنسانويين وفي القرن السادس عشر. خصّص ديكارت ثلاث أقسام للضحك ولعلاقته بالمهج كما اعتنى هوبز وسبينوزا بهذه المسألة ودافع هذا الأخير في كتابه الرابع حول « الإيطيقا » عن قيمة الضحك. في الحقيقة لقد تركّز الاهتمام خصوصا على المهج التي تثير الضحك (الفرح، التهكّم، الانبهار، الحقد، اليأس، الشعور بالتّرفّع والعظمة والقوّة...). فهُوبز كما بُودلير ومعظم مفكّري النهضة يفرّقون بين الضحك والابتسامة. فالابتسامة هي من الحبّ بينما الضحك من الاحتقار. يمكن القول أن مفكّري النهضة لم يتخلصوا من الفكر الموروث في هذا المجال. لكن المشتغلين بالطبّ قد فنّدوا هذه المواقف. فإذا كان الضحك تعبيرا عن السخرية والاستهزاء فبماذا نفسّر ضحك الرّضع والأطفال؟ ظهرت في ثقافة الأنوار وبالخصوص في بريطانيا اتجاهات مناقضة لآراء أرسطو وهوبز حول الضّحك وأكّدت على أن الضّحك محبّب ومفيد. يعتبر برجسن أن الضحك تصرّف خاص بالإنسان وهو بذلك يتفق مع أرسطو. للضحك بعد أخلاقي وميتافيزيقي. فعلى المستوى الأخلاقي تكمن قيمته في قدرته على إبراز الغرور. « فهو العلاج الخاص للغرور والانحرافات » كما يسمح بالحدّ من الضغوط التي تبعث على الانفعال والضحك يعيد للحياة الفردية والجماعية سلاستها التي كثيرا ما تفقدها « وهو يجعل الجامد حيّا ». الضحك هو « نوع من الميكانيك الذي يُرَكّب على الكائن الحيّ ». هي وسيلة اجتماعية بالأساس. فما يبعث على الضحك هو كلّ ما يجعلنا نرى الكائن الحيّ شيئا ميكانيكيا...... كلما لا حظنا التكرار أي ما يطلق عليه برجسن بـ« أتمتة الحياة » فسوف يثير ذلك فينا الضحك. فالمواقف والأوضاع وحركات جسم الإنسان المضحكة هي تلك التي تجعلنا نفكّر في حالة ميكانيكية خالصة والضحك هو تعبير عن الذكاء البشري. كما أنه لا يمكن لنا أن نضحك إلاّ بمشاركة آخرين حقيقيين أو خياليين.

يصنّف هيجل أنواعا من الضحك. فالضحك الساخر هو ضحك الاحتقار والتعالي أو ضحك الاستسلام واليأس. إنه الضحك الساخر للشيطان الذي يجمع بين مختلف هذه الخاصيات. أما الضحك الذي يعتمد الهزل والفكاهة فهو يعبّر عن قدرة الإنسان على الترفع عن التناقض الذي يسقط فيه الإنسان وعن تجاوزه عوض التألم والإحساس بالتعاسة. يمكن إذن أن نضحك لتجاوز صعوبات أو ألم أو حزن أو كارثة وقديما قيل : كثرة الهمّ مجلبة للضّحك. ينشأ الضحك لوجود تناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدّفين الذي يقدّمه هذا المفهوم أي الشيء الظاهر. فبالضحك ننكر وجوده بصفة مطلقة. شوبنهاور يرى أن الضحك نتاج للمفاجأة بإدراك عدم التطابق بين الشيء المضحك والشيء الذي يخطر على البال والذي من المفروض أن يشابهه.

يرى فرويد أن الضحك ظاهرة وظيفتها إطلاق الطاقة النفسية التي تم « تعبئتها » بشكل خاطئ أو بتوقّعات كاذبة وهو يمكّن من التخلص من الضغوط الداخلية.

يميّز نيتشه بين شكلين من الضحك : الضحك اليائس أو الضحكة الصّفراء التي تستهزئ من ضعف الإنسان وعدم قدرته على كشف حقيقة ومعنى الحياة. ينطلق هذا الضّحك من موقف يعتبر أن هناك عدم اتّفاق بين الإنسان والعالم. فلا وجود لأي ظاهرة أو حقيقة قابلة للمعرفة الكاملة ولا وجود لضمان للحقيقة. إنه ضحك اليائس الذي يعجز عن تجاوز مصاعب الحياة وبالتالي يعجز عن تحمّل ذاته. إنه الضحك المتألم والعاجز. بالمقابل هناك الضحك الذي يتجاوز هذا التعارض وهذه الثنائية بين الإنسان والعالم والذي يقبل بتكاملهما وتكامل الحياة والموت واللّحظة والأزلية والشكل واللاّشكل والجميل والقبيح.

هذه بعض مواقف الفلاسفة من الضّحك هذه الظاهرة التي لازالت إلى يومنا تثير التساؤل والتفكير.

كيف تعاملت الأنماط الفكرية المنغلقة مع هذه الظاهرة؟ بالأمس كما في عالمنا الحاضر، برزت سلطات تحكم باسم حقائق ثابتة وتفرض جبروتها. فسواء ادّعت أنها تحكم باسم الدين أو فلسفة أو أيديولوجيا أو باسم العلم أو يد خفيّة أوقانون متعالي أو تاريخي موضوعي فهي تنغلق على نفسها وترفض النقد والمراجعة بل تتعنّت ولربّما يكون موقفها هذا مجلبة للضحك. نحن نبتسم أو نضحك من إدّعاء كاذب وخطاب مهترئ ونضع بذلك الحقيقة في مكانها ونعترف لها بحدودها. نضحك أيضا لكي لا نموت فداء لحقيقة ثابتة ومطلقة أو فداء لشخص أو رمز أو مجموعة أشخاص أو مرجع يدعي امتلاكه الحقيقة المطلقة ويدعو الآخرين للموت لأجل هذه الحقيقة أي في الواقع لأجله. لذلك اعتبر الدكتاتوريّون والمتعصّبون من كلّ فصيل واتجاه، الضحك خطرا عليهم وعلى سلطانهم السياسي والفكري... هناك موقفان أساسيان من الحقيقة :

إمّا أن نقرّ بعجزنا ونعتبر الحياة تفاهة وسرابا وبطلانا ونرجئ السعادة لغد وعالم آخرين أو ندّعي قدرتنا على التحكم اللاّمتناهي والمطلق في الكون (سلطة العلم والتكنولوجيا) ونتحوّل بذلك إلى شبه آلهة وهذان الموقفان المتضاربان هما وجهان لعملة واحدة.

أو أننا نقرّ بالفراغ والإبهام والغموض فنبني على هذا الفراغ والعجز والمجهول وهذا « البئر بدون قاع » على حسب تعبير المفكّر كاستورياديس خلقا وإبداعا وفنّا ومجتمعا وعلاقات وثقافات وقد يدخل الضحك والهزل والكوميديا ضمن هذا الخلق.

في قصّة « اسم الوردة » للكاتب « أمبرتو إيكو » يؤكّد القسّ جورج على أن لا يسقط القسم الثاني من كتاب أرسطو الذي يتطرق للشاعرية بين أيدي أيّ كان. لم يذكر أحدا من المؤلفين الذين جاءوا بعد أرسطو هذا الجزء من الكتاب في حين يعودون إلى القسم الأوّل منه والخاصّ بالتراجيديا. فمن المفروض أن يتعرّض الجزء الأوّل منه إلى الكوميديا والضحك. يعتبر القسّ جورج أن للضحك غاية شيطانية : فالضّحك يعلّمنا كيف نسخر من الأمور المقدّسة ويعتمد في ذلك على منطق أرسطو نفسه ليفسّر طبيعة الضحك.

  • 1- فالضحك يزيل الخوف. لكن الخوف هو بالأساس خوف من القوّة المتعالية. إذن فالضحك يلهينا عن الآلهة ويتنكّر لها.
  • 2- الضّحك ينسينا الموت. لكن الطقوس الدينية توحي إلى الخوف من الموت. إذن يلهينا الضحك عن الطقوس الدينية.
  • 3- الهزل سخرية من كلّ ما هو جدّي. لكن أليست السلطة الدينية هي أكثر الأشياء جدّية. إذن يسخر الممثل الهزلي من السلطة الدينية.

في كلّ الحالات إذن يمثل الضحك خطرا على سلطة رجال الدين والفقهاء. ففي العصور الوسطى مثّل الضحك تهديدا لا فقط للفكر الدّيني بل حتى للفلسفة بما أنّ عدواه تنتشر وتتجاوز قواعد السلوك وتلهينا عن القيم السائدة والتصرّفات والرّؤى التي تحكمها. فالقسّ جورج الذي يتحدث عنه « أمبرتو إيكو » لا يتحمّل لا الضحك الساخر الذي يعبّر عن تعالي والذي يسخر من كلّ ما هو جدّي ولا الضحك السيادي الذي يمكّن صاحبه من التباعد أشواطا عن ذاته ومعتقداته وثوابته وعن حالات الخوف الكامنة فيه. في كلتا الحالتين يشكّك الضّحك في السلطة وفي رموزها وشرعيتها. فالقس جورج لا يتحمل لا سخرية الشيطان ولا مزاح سقراط ولا الكوميديا ولا الفلسفة لأن كلّها تشكّك في المطلق والمقدّس والثابت. أغلب الأيديولوجيات والوثوقيات قد أكّدت على الانضباط وقد أصدرت أحكاما على الضّحك سواء بصفة صريحة أو من خلال التأويلات التي يقدّمها الفقهاء ورجال الدين وقادة الأحزاب الشمولية...

لقد اعتبر الفقهاء أن الممدوح من الضحك هو ما كان تبسّما وضحكا خفيفا. فالقهقهة هي عادة من صنيع البلهاء وذوي الأخلاق الوضيعة. جاء على لسان معظم الفقهاء :« القهقهة من الشيطان ». فكثرة الضّحك تُميت القلب والمسؤولون سواء كانوا فقهاء أو ملوكا أو رجال سياسة هم وقورون، متّزنون، هادئون، طويلو الصمت، قليلو الضّحك ومن المستحسن أن يبتسموا بهدوء. قال عبد الرحمان الشيزري صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك :« اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذّمة والقبح ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب لما به من زوال الهيبة وذهاب الوقار وقلّة الأدب ومن أكثر من شيء عُرف به ولكن لا بدّ أن يرى الإنسان ويسمع ما يغلب عليه الضّحك منه أو تمسّه الحاجة إليه، لإيناس الجليس. وينبغي إذا طرأ شيء من ذلك أن يجعله تبسّما ».

إذن علينا مجاهدة النفس لكتم الضحك وتجنّب مخالطة الشخصيات الهزلية والاكتفاء بالتبّسم. ففي حكومة طالبان مُنعت النسوة من الضّحك وحتّى من التبسّم.

خلاصة : مهما اختلفت أسباب الضحك ودواعيه وطرق تعبيره وأهدافه وإذا استثنينا حالات التحقير يظل الضحك إقرارا بالنّسبية كما أنه نشاط محرّر يرافق إنسانيتنا التائهة والحائرة والحالمة والمبدعة وهو يساعدنا على مواجهة الغموض والفوضى ويسمح لنا بقبول فكرة الموت والنهاية. هو تخلّي عن الجانب الجامد والثابت في كياننا ووجداننا. هو نفسه ضحك سقراط من طريقة ضحك أرستوفان من سقراط نفسه.

يمكن لنا أن نضحك من كلّ شيء ولكن لا يمكن لنا أن نضحك مع أي كان. لن نضحك مع من يتهكّم بعنصرية من الآخرين ويحقّرهم ولن نضحك مع من شرّد شعبنا ونهب خيراتنا ولكنّنا نضحك من تعالي البعض وادعائهم القوة المطلقة ومن صلف الطغاة. قد نضحك أيضا من أوضاعنا الرّديئة ولكن لن نضحك مع من يضحك علينا بعد أن يكون قد غرّر بنا وكان سببا من أسباب عجزنا. نضحك ونبكي ونتبسّم ونتأوّه ونشحن كلّ ذلك بالتساؤل الذي لا ينفكّ ولا يهدأ.


Commentaires

Navigation

Mots-clés de l’article

Articles de la rubrique

Soutenir par un don