I. تقديم :
هذا الكتاب هو خلاصة حوار وتعاون بيننا وبين مجموعة التفكير الفرنسيّة : « مواقع مشتركة » (Lieux Communs)وهو ثمرة حوارات تونسية-فرنسية-يونانية-إسبانية. بعد الانتفاضة التونسيّة وانتفاضة الشّعب المصري واليوناني والإسباني (وقد لحق بها الشّعب البلغاري والبرازيلي والتركي) طرحت قضايا عديدة لعلّ أهمّها قضيّة الديمقراطية وقضايا أخرى مثل قضايا البيئة والتّعليم والثقافة والتنمية. لقد كانت هذه الانتفاضات فرصة للتعرّض لجملة هذه القضايا علما بأنّه رغم الخصوصيّات الثقافيّة لكلّ بلد وتفاوت مستوى المعيشة فهناك قضايا مشتركة ترتبط بحاضر ومستقبل البشريّة جمعاء.
هذا الكتاب هو مدخل متواضع لقضيّة الدّيمقراطيّة وقد أردنا من خلاله دحض فكرة الدّيمقراطيّة التمثيليّة التي أصبحت تعيش أزمة في عقر دارها والتعرّض إلى أزمة المجتمعات المعاصرة لنخلص إلى بعض الرؤى والتوجّهات التي نعتبرها قابلة للمراجعة في أيّ وقت. لن ننطلق من أية أيديولوجيا بل سنسائل الواقع المعاش للبحث في كيفيّة تجاوزه دون أن يعني ذلك أنّنا ننصّب أنفسنا أوصياء على الشّعوب أو رسل لسعادة موعودة.
نرجو أن يكون هذا الكتاب عنصر إثارة ودفع للتّفكير في القضايا التي تشكّل تحديّات لكلّ شعوب العالم.
II. أعط صوتك ونم أو الدّيمقراطيّة بالوكالة :
1. بين الانتخاب والدّيمقراطيّة :
« انتخبوا » هذا هو مبدأ الدّيمقراطيّة التمثيليّة. نحصل على ممثّلين شرعيّين وعلى حكومة شرعيّة نعتقد أنّها الأقدر والأكفأ. هؤلاء النوّاب هم من سيسهر على تحقيق مطامح الشّعب. يخيّل لّنا أنه بانتخابنا نكون قد قرّرنا ومارسنا سيادتنا على أحسن وجه وتلك هي أكذوبة الدّيمقراطيّة التمثيليّة. فمن قرّر أنّه علينا أكل طعام ملوّث بالمبيدات والأسمدة وفاقد للأملاح والمغذّيات والفيتامينات وغذاء صناعيّا أصبح مصدرا للأمراض؟ من قرّر أنّه علينا شراء الآلات الالكترونيّة سريعة التآكل؟ من قرّر أنّه علينا تقبّل مجمل القرارات الخاصّة بصحّتنا؟ من قرّر أنّ التعليم هو فقط ما يقع تدريسه وترويجه من معلومات وتصوّرات؟ من قرّر الحروب والنزاعات؟ من سطر أهمّ الاختيارات؟ هل فعلا الشّعب الذي انتخب؟ هل نحن فعلا من يختار أكله وشربه ولباسه ودواءه ووسيلة نقله وسكنه وفنّه وعمله؟ فإذا استثنينا الانتخابات الدّوريّة التي لا تمثّل بالنسبة لنا جوهر الدّيمقراطيّة فنحن مفعول فينا ونخضع لإرادات خارجة عن نطاقنا وبالتالي فإنّ الدّيمقراطيّة بصفتها سلطة الشّعب غائبة عن كلّ مظاهر حياتنا اليوميّة. لا نقدر حتّى على اختيار المواد التي علينا إنتاجها ولا حتى تحديد حاجياتنا وحتى لباسنا يخضع لموضة فرضها علينا آخرون وأطلقوا عليها « موضة العصر ». أمّا العمل فحدّث ولا حرج. فنحن ندرس ونتعلّم ونحصل على شهادات وربّما خبرات لنلتحق بمصانع وإدارات ونقوم بأشغال هدفها الأوّل هو ضمان دخل نحقّق به قوتنا ويسمح لنا بالاندماج في مجتمع الاستهلاك.
لماذا نعتبر أنّ التمثيليّة نقيض للدّيمقراطيّة وهل بإمكان كلّ أفراد الشّعب أن يساهموا في السّلطة وفي وضع القوانين والقرارات؟ أليس ذلك من باب الوهم والحلم الطوباوي غير القابل للتّحقيق؟ ألا يفترض علينا قانون العدد أن ننتقي من بين أفراد الشّعب ممثّلين يبلّغون أصواتنا ومطالبنا فنوكل لهم مهمّة وضع القرارات المناسبة ونثق في قدراتهم ووفائهم؟ ثمّ هل أن كلّ مواطن قادر على ممارسة السياسة؟ ألا يتطلّب ذلك مستوى علميّا راقيا وتجربة وحنكة لا تتوفّر لدى عموم الشّعب؟ سِركُ الانتخابات يتجلّى لنا في عديد المظاهر والأوجه. فنحن لا ننتخب قوانين وقرارات بل أحزابا وأشخاصا. نحن نختار أشخاصا يصوّتون نيابة عنّا على قوانين وهذا يطرح إشكاليّات عديدة. في أغلب الحالات يستقرّ اختيارنا على نائب نعتقد في قدرته الفائقة على التواصل والخطاب والإقناع وفي التزامه بوعوده وفي بعض الأحيان في حيازته لكاريزما تجعله يجلب انتباه وتعلّق المواطنين إضافة إلى سلوك متميّز لكنّه يخضع في الحقيقة لنمطيّة فرضها المجتمع.
لكن رغم هذه الوعود والآراء التي تبدو ثاقبة وجديّة وواعدة ورغم هذه القدرة على التّبليغ والإقناع والقيام بالحسابات والمقارنات ورغم الالتزام الصّريح بالقضاء على البطالة وتحقيق الرّخاء وضمان التنمية وتوزيع الخيرات فنحن شاهدون على عجز هؤلاء عن الإيفاء بوعودهم. فهذه المجتمعات تتفكّك وهذه الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والبيئيّة والثقافيّة وحتّى العلميّة تتفاقم وتتعمّق ولا من حلّ سحريّ لها. ثمّ ألا يمكن لهذا السياسي الفطن والمحترف والمحنّك والبارع والمتألّق أن يتنكّر لوعوده وينكثها وهذا ما يقع عادة وما نتلمّسه يوميّا؟
كلّما واجه الشّعب النوّاب وذكّروهم بوعودهم طفقوا يبرّرون عجزهم بأن من سبقوهم لم يفلحوا في وضع الخطط الضروريّة والفاعلة وأنّهم ورثوا تركة ثقيلة يصعب تجاوزها في بضع سنين. إنّهم يطالبون الشّعب بالتريّث : « اصبروا وصابروا والأهمّ من كلّ ذلك لا تفعلوا شيئا ولا تبادروا. فنحن أولى بحاضركم ومستقبلكم وسنرعاكم ونتكفّل بمصيركم. المهمّ أن تثقوا فينا ». تمرّ السنون والسّنون ودار لقمان على حالها وننتخب من جديد فريقا آخر يعدنا أيضا وقد تختلف برامجه عن برامج السّابقين ولكنّنا ما نلبث أن نقتنع بأنّ لا شيء قد تغيّر.
لن يقدر المواطنون على سحب ثقتهم من هؤلاء النواب الذين يقضّون طيلة فترة نيابتهم. حتى وإن وقع اختيار الشّعب على النّواب الأقدر والأنزه فهذا لن يغيّر في المسألة شيئا مادامت الظّروف اللاّحقة والمستجدّات لن تكون موافقة تماما للظّروف التي وقعت فيها الانتخابات. سيعلّل النواب عجزهم بالمفاجآت والأحداث التي لم يتوقّعوها.
عالم المرشّحين للمناصب مشحون بالصراعات التي تغذّيها المصالح الخاصّة. من المضحك نّ كلّ هؤلاء المترشّحين يقسمون أنّهم لا يبتغون سوى خدمة الوطن والشّعب.
بمجرّد أن يشكّك المواطنون في سياسات النواب وفي قراراتهم يجيبهم هؤلاء المسؤولين أنّ المسألة من مشمولات المختصّين والخبراء. من أنتم حتى تناقشون مسائل مرتبطة بالعلوم والتقنيات وميادين كالزراعة والصحّة والنقل...؟ لكي يقتنع الشّعب بزيف أطروحاتهم يلجأ هؤلاء المسؤولين إلى لغة مشحونة بالمصطلحات الرّنانة من ذلك : مجتمع المعرفة، مجتمع الامتياز، اقتصاد المعرفة، نسبة النموّ، قيمة الصادرات، الميزان التجاري، ميزان الدّفوعات، التنمية المستديمة، الحوكمة الرّشيدة... كلها تعابير ديماغوجيّة الهدف منها هو إخفاء الحقائق وإيهام الشّعب بأنّنا نسير في الطّريق السويّ.
عندما يعدنا السياسيّون بالبرامج والإصلاحات والإجراءات الثوريّة يتناسون أنّ القرارات الهامّة تتّخذ على مستوي دولي تفرضها أوليغارشيا عالميّة (وسنعود لهذه المصطلح) عبر منظمّات مثل المنظّمة العالميّة للتجارة والبنك الدّولي وصندوق النقد الدولي. فسواء تعلّقت المسألة بالصناعة أو التجارة أو الغذاء أو البذور أو الصحّة أو التعليم أو الخدمات لا بدّ للسياسة الوطنيّة أن تخضع لقرارات الهيئات الدّوليّة ولتوجّهاتها. فنحن شاهدون اليوم على تراجع دور الدّولة الوطنيّة والاستعاضة عنها بمنظمات غير حكوميّة (ONG) أو حتّى بعض ما يعرف بمنظّمات المجتمع المدني التي أصبح معظمها يقوم بدور أساسي في تمرير التوجّهات الدوليّة. فلا غرابة على سبيل المثال أن تتبنّى هذه المنظّمات والجمعيّات مصطلحات مشبوهة وغامضة مثل الحوكمة وما أدراك ما الحوكمة.
صحيح أنه لا وجود لوجه شبه بين البلدان التي تحكمها دكتاتوريّات وبين البلدان التي تعتمد الدّيمقراطيّة التمثيليّة لكن هذه الحقوق والمكاسب التي حصلت عليها الشّعوب والتي نقول عنها أنّها ذات طابع ديمقراطيّ هي حصيلة نضالات وتضحيات دامت عقودا وقرونا. حتّى في البلدان التي نطلق عليها بالدّيمقراطيّة أصبح المواطن يشعر بالخيبة وبأنّه لا يمتلك أيّة سلطة فعليّة. هناك السياسيّون المحترفون الذين وكلّهم الشّعب وهذا الأخير هو بمثابة الرّضيع أي المواطن الفاقد للقدرات بحيث يقتصر دوره على التقبّل وطلب الرّعاية. لقد فقد المواطنون الثقة في كلّ الأحزاب تقريبا فقاطع جزء هام من الشّعب الانتخابات وحتى وإن انتخب فلقد اختار ما يعتقده أقلّ سوء. تتناوب الأحزاب على السّلطة وتتواصل في الأثناء هيمنة الأوليغارشيا التي تحتلّ كلّ مواقع السّلطة ولا تهتمّ بالأزمات والكوارث الاجتماعيّة والبيئيّة. فكلّ ما يعنيها هي مصالحها المباشرة وبرنامجها الوحيد هو الزيادة في الإنتاج والإنتاجيّة والتّصدير ولا يخلو نشاطها من الفساد في شتّى أشكاله ومظاهره. إذن نحن أمام خيارات عديدة. فإمّا أن نتنصّل من مسؤوليّاتنا ونوكل أمورنا للسياسيّين المحترفين ونسمح لهم بتقرير مصيرنا ومصير الأجيال القادمة أو أنّنا نعلن يأسنا من رجال السياسة وننزوي في ركننا ونقاطع العالم الخارجي أو أنّنا نقطع مع الرّكود والخمول والانهزاميّة والإتكاليّة ونأخذ مصيرنا بأيدينا فنبتكر أشكالا جديدة لممارسة السّلطة تعيد للمواطن دوره.
(...)
Commentaires